التداعيات الإقتصادية للأزمة الأوكرانية
"الصراع ليس بين أوكرانيا وروسيا بل هو صراع داخل أوروبا"، هكذا يرى الأوروبيون الأزمة التي تعصف بأوكرانيا حالياً. هذه الأزمة لها تداعيات إقتصادية عديدة يمكن أن تطاول أوكرانيا، أوروبا وروسيا. فما هي هذه التداعيات؟ وكيف تستعدّ الدول الغربية لمواجهتها؟
تُجسد الأزمة الأوكرانية الحالية ترجمة عملية للصراع البارد بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية الذي بدأ بالظهور مع تبوّء فلاديمير بوتين سدة الرئاسة في العام 2000. وبوتين هذا دفعه فكره القيصري إلى وضع إستراتيجية تهدف إلى إعادة ما يُسمّى بـ»السلطة العامودية» وهي عبارة عن نموذج سُلطوي للحكم ما أدّى إلى وقف الليبيرالية السياسية التي بدأها مخائيل كورباتشيف.
وهذه السيطرة داخلياً ما هي إلّا خطوة لاستعادة روسيا لمكانتها العالمية كالقوة الوحيدة التي تستطيع الوقوف في وجه الولايات المتحدة الأميركية. كلّ هذا ترافق مع نهضة إقتصادية روسية كترجمة للفكر التجاري لبوتين الذي انفتح تجارياً على الغرب وحتى على الولايات المتحدة الأميركية.
الإهتمام الروسي بدول شرق أوروبا يأتي من البعد الإستراتيجي لهذه الدول في السياسة الخارجية الأميركية. فهذه الأخيرة تهدف إلى ضمّ هذه الدول إلى حضن السياسة الغربية عبر دخولها في الإتحاد الأوروبي أو عبر إدخالها في حلف شمال الأطلسي.
تفجّرت الأزمة الحالية في أوكرانيا بسبب إعتراض القسم الكاثوليكي من أوكرانيا على عدم توقيع معاهدة التقارب مع أوروبا، وأدّى تطور التظاهرات الإحتجاجية إلى هروب الرئيس الأوكراني السابق وسيطرة الموالين للسياسة الغربية على معظم القسم الغربي من أوكرانيا بما فيها العاصمة. لكنّ الأهمية العسكرية الإستراتيجية لشبه جزيرة القرم دفع روسيا إلى التدخل فيها والسيطرة على الجزيرة من دون أيّ خسائر. وهذا إذا دلّ على شيء فهو يدلّ على أنّ أوكرانيا ساقطة عسكرياً أمام الماكينة العسكرية الروسية.
الإقتصاد الأوكراني...
يبلغ حجم الإقتصاد الأوكراني 176 مليار دولار (US$ Current) وهو اقتصاد متنوّع يعتمد على الزراعة (10.4%) والصناعة (32.8%) والخدمات (56.8%). وتمتلك أوكرانيا موارد طبيعية غذائية ومعدنية عدة تدعم هذا الإقتصاد الذي يعاني من تضخم هائل (20%).
ومن أهم الشركاء التجاريين لأوكرانيا إستيراداً وتصديراً، روسيا التي تُسيطر على أهم الشركات في أوكرانيا. وميزان أوكرانيا التجاري سلبي حيث سجلت أوكرانيا عجزاً تجارياً على مرّ السنين العشرة الماضية ليبلغ حالياً 16 مليار دولار. وهذا حال ميزان المدفوعات الذي وصل إلى أرقام قياسية مع عجز يفوق الـ 13 مليار دولار أميركي.
كذلك، إن هشاشة الوضع السياسي في أوكرانيا خصوصاً بُعيد الثورة البرتقالية دفع بالمالية العامة إلى التردي حيث أخذ العجز العام بالتزايد كما والدين العام الذي وصل إلى 42% من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2013. ويأتي قسم من العجز العام من السياسة التي تتبعها الحكومة لدعم المحروقات.
التداعيات الإقتصادية
لهذه الأزمة تداعيات سلبية على الصعيد الداخلي الأوكراني وعلى صعيد روسيا والدول الأوروبية. ومن أهم هذه التداعيات:
أولاً، على صعيد أوكرانيا: يبلغ حجم الدين الأوكراني العام 140 مليار دولار أميركي منها 7 مليارات دولار تستحق هذا العام (للمصارف بالدرجة الأولى). ويبلغ دين أوكرانيا لروسيا 17 مليار دولار منها 3.3 مليارات دولار لشركة النفط الروسية غازبروم.
لكنّ إحتياط أوكرانيا من العملات الصعبة بدأ بالإنخفاض وقد بلغ في أواخر 2013، 15 مليار دولار أميركي (ينخفض هذا الإحتياط بنسبة 10% شهرياً) وهذا ما دفع المصارف إلى رفض إعطاء أوكرانيا قروضاً لعدم وجود إحتياط كاف (Colateral)، وفقدان الثقة، وهذا ما دفع بالعملة الأوكرانية إلى التهاوي كما أنّ المصارف تشهد عملية سحب كثيفة لأموال المودعين.
وكأنّ هذا الوضع لا يكفي أوكرانيا، إذ عمدت وكالات التصنيف الإئتماني إلى تخفيض التصنيف الإئتماني لأوكرانيا (Fitch B) ما أدّى الى ارتفاع أسعار الفائدة بشكل كبير.
واستمرار التشنج الحالي سيؤدي حتماً إلى إفلاس أوكرانيا إلّا إذا حصلت على قرض كبير طويل الأمد من صندوق النقد الدولي وأوروبا، يسمح لها سدّ مستحقاتها القصيرة الأمد (7 مليارات د.أ). والمفاوضات الحالية بين أوكرانيا والصندوق تدور حول 15 مليار دولار في حين أنّ أوكرانيا طلبت 27 مليار دولار. الى هذا، ستؤدي العقوبات المحتملة لروسيا على أوكرانيا إلى ملايين من العاطلين عن العمل.
ثانياً، على صعيد أوروبا: تُعتبر أوروبا المنفذ الإقتصادي الطبيعي لروسيا. وفي حال أقرت الدول الأوروبية عقوبات إقتصادية على روسيا فإنّ التداعيات الإقتصادية ستكون كبيرة على أوروبا خصوصاَ على صعيد إستيراد الغاز الروسي الذي يُغذي 40% من إحتياجات السوق الأوروبي من الغاز الطبيعي.
أضف إلى ذلك القطاع النووي، إذ إنّ العديد من الدول الأوروبية تمتلك مفاعلات نووية روسية بحاجة إلى التقنيات الروسية لصيانتها كما وإلى اليورانيوم الروسي، ما يعني أنه في حال فرض عقوبات على روسيا ستتوقف هذه الأخيرة عن صيانتها ما يؤدي الى توقف هذه المنشأت عن العمل وزيادة الفاتورة الحرارية وبالتالي أسعار النفط العالمية.
وتُعتبر ألمانيا البلد الأوروبي الأكثر تعلقاً إقتصادياً بروسيا، حيث إنها أصبحت تُشكل تقاطعاً (Hub) للمنتوجات النفطية الروسية في أوروبا. وألمانيا هي أولى الدول أوروبياً في إستيراد الغاز والنفط الروسي وفي حال فرضت عقوبات على الدول الأوروبية، فستعمد روسيا إلى قطع النفط والغاز عن ألمانيا ما سيؤثر بشكل كبير على إقتصادها.
لكنّ ألمانيا ليست الوحيدة التي تتأثر لهذه الدرجة، فكل دول أوروبا الشرقية تتعلق بالغاز الروسي وأي عقوبات روسية على أوروبا، ستقضي على هذه الدول. والمشاريع التي تقوم بها روسيا منذ فترة لمدّ أنابيب شمالاً وجنوباً تزيد تعلق الدول الأوروبية بغازها، ففرنسا مثلاَ أصبحت تستورد 15% من حاجاتها الغازية من روسيا.
من هذا المنطلق، نرى أنه من الصعب جداً أن تعمد أوروبا إلى المضي في عقوبات على روسيا خصوصاً مع تصريحات بوتين الأخيرة والتي توعّد فيها أوروبا أن تعود إلى عصر الحطب.
والغاز ليس الوسيلة الوحيدة للضغط على أوروبا إقتصادياً، فهناك المواد الأولية (المعادن الأرضية النادرة) حيث تعتمد إيرباص (Airbus) بشكل حصري على روسيا لتزويدها بالتيتانيوم، وأيضاً هناك المواد الغذائية كالقمح الذي تُزود به روسيا السوق الأوروبي.
ثالثاً على صعيد روسيا: إنّ التداعيات الإقتصادية على روسيا ليست بأقل من أوروبا، فروسيا تُصدّر معظم غازها إلى الغرب حيث يتمركز الإتحاد الأوروبي كأول مستورد لهذا الغاز. كما وأنه وبعد تفكك الإتحاد السوفياتي شهدت روسيا نوعاً من التراجع الصناعي مما يعني حاجاتها إلى الصناعات الأوروبية كما إلى التكنولوجيا.
من كلّ ما تقدم نرى أنه من الصعوبة جداً كذلك أن تعمد الدول الأوروبية المقسومة إلى ثلاثة أقسام (ضدّ روسيا وعلى رأسها بريطانيا، مع روسيا وعلى رأسها ألمانيا وشبه المحايدة وعلى رأسها فرنسا) إلى فرض عقوبات على روسيا. إذ إنّ فرض هذه العقوبات ستكون له تداعيات سياسية كبيرة على أوروبا في وقت تحتاج أوروبا إلى التكاتف لعبور أزمة الديون السيادية.