على حلبة أوكرانيا...
موسكو تفوز بالضربة القاضية
التعاون الاقتصادي، بين روسيا والغرب، ليس أحاديا في فوائده، إذا ما طبق الغرب عقوباته الاقتصادية بحقها، وقد بدأت روسيا بقذف الكرة في الملعب الأميركي والأوروبي، بإعلانها أنها ستتخذ عقوبات بحق دول الناتو، إذا ما أقدمت على فرض أي عقوبات اقتصادية
قراءات كثيرة ومختلفة للأزمة الأوكرانية الراهنة، حاول كل فريق من خلالها، أن يحشد لوجهة نظره منها، لكن لحقائق الجغرافيا والتاريخ، قولها الفصل. لا يهدف هذا الحديث لتقديم قراءة للأزمة، فالمعلومات حولها، أصبحت متاحة للجميع، بل تقديم قراءة استشرافية، على ضوء ما هو متوفر من معطيات.
ومن مصادفات التاريخ المثيرة أن مفهوم الصراع جيوسياسي في العالم بدأ سنة 1853 بالصراع حول منــطقة القرم بين روسيا بقيادة الإمبراطور نيقولا الأول في مواجهة الدولة العثمانية وفرنسا وبريطانيا، وانهزمت روسيا ووقعت معاهدة السلام سنة 1856 في باريس. وإذا كانت شبه جزيرة القرم تدشن مرحلة جديدة من الصراع جيوسياسي عالميا في القرن الواحد والعشرين، فمعطيات الواقع تؤكد صعوبة تكرار سيناريو 1856 بهزيمة روسيا في الوقت الراهن، لأن الكرملين مصمم على منع تكرار التاريخ.
يثير توقيت الأزمة، وتداعياتها جملة من الشكوك والأسئلة. فالأصل فيها، كما هو معلن خلاف بين الرئيس الأوكراني والمعارضة، حول الشراكة مع الاتحاد الأوروبي. المعارضة تطالب الرئيس يانوكوفيتش، بالتعجيل بتوقيع اتفاقية الشراكة، والرئيس يماطل في تحقيق ذلك، ويطالب بتوسيع العلاقات مع روسيا. وحين عجزت المفاوضات في الضغط على الرئيس لتغيير وجهة نظره، لجأ المعارضون إلى الشارع، في احتجاجات انتهت بعزل الرئيس، وتغيير توجهات الحكم. التي انتهت بأزمة القرم وقرار موسكو بالتدخل العسكري لحماية مصالحها في شبه الجزيرة، عصفت بأوكرانيا مجموعة من الأحداث التي جعلتها محط أنظار العالم بالنظر إلى أهميتها الاستراتيجية.
ما يجري في أوكرانيا اليوم يشبه إلى حد كبير مجريات الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في الماضي، فموسكو تنظر إلى كييف باعتبارها خاصرتها الأمنية، ولا سيما بالنظر إلى قاعدة سباستوبول المطلة على البحر الأسود، التي تحتضن جزءاً من الأسطول الروسي، أما الغرب فيعتبر أنه في حال تمكن من انتزاع أوكرانيا من الحضن الروسي، سيسدد ضربة قوية إلى موسكو.
"خطيئة" خروتشوف
لم تصبح القرم جزءاً من أوكرانيا إلا في العام 1954، عندما قرر الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف، وهو أوكراني الأصل، إهداءها إلى موطنه الأصلي، ولم يكن لذلك القرار أي أثر عملي إبان الحقبة السوفياتية، ولكن بعد انهيار وتفكك الاتحاد السوفياتي عام 1991، أصبحت شبه جزيرة القرم جزءاً من أوكرانيا المستقلة، ولم تعد سيطرة موسكو عليها كما كانت من قبل، ولكن رغم ذلك، ما زال أكثر من 80 في المئة من سكانها يعتبرون أنفسهم من الروس، في الواقع، استولت روسيا على القرم في أواخر القرن الثامن عشر عندما دحرت جيوش الإمبراطورة الروسية كاثرين العظمى تتار القرم الذين كانوا متحالفين مع العثمانيين، وذلك بعد حروب دامت عقوداً عدة.
تتمتع القرم المحاذية لروسيا باهتمام استراتيجي خاص من قبل روسيا لعدة عوامل، ليس أولها أن نسبة السكان فيها هم من الروس، بل يتخطى الأمر ذلك وصولاً إلى العمق الاستراتيجي لموسكو كونها الممر الحيوي لروسيا نحو أوكرانيا، كما أن تدخل روسيا الأخير في القرم أتى بطلب من الشعب والسلطات المحلية، ليس فقط من أجل مصالح الدولة الروسية الاستراتيجية، بل من جراء خوف لدى السكان من اعتداءات يمكن أن تطال الناطقين باللغة الروسية من قبل بعض المتطرفين القوميين الفاشيين الأوكرانيين.
كان واضحاً منذ البداية أن الغرب يميل إلى بث الفوضى في أوكرانيا من أجل استفزاز روسيا، أما روسيا فقد وجدت من جهتها في ذلك الاستفزاز مناسبة للتأكيد بأن تغيير ميزان القوى لم يعد محصوراً في الصراع النظري في مجلس الأمن، بل صار على الغرب أن يرى عملياً أن حقبة بوتين ليست استمراراً لحقبة بوريس يلتسين الضعيفة، يوم خرجت روسيا مهزومة من الحرب الباردة، روسيا بوتين ليست فيلاً وهمياً يرقد على خرائط الأمم المتحدة، في صمت ذهب بوتين بجيوشه إلى حرب، يعرف أنها لن تقع في القرم، لكنه أكد للعالم أنه لا يخشى التهديدات الغربية لأنها واهية.
يعرف بوتين أن الغرب اخترع اللعبة في أوكرانيا، لا من أجل التورط في حرب مدمرة، بل من أجل إطلاق بالون اختبار، في انتظار ردود الفعل الروسية، وهو ما استجاب له الرجل بلياقة ديبلوماسية باردة، مؤكداً أن أحداً لن يخيف روسيا أو يقترب من تهديد مصالحها.
استهزأت موسكو بتهديدات الرئيس الأميركي باراك أوباما باحتمال اتخاذ إجراءات عقابية ضدها رداً على تدخلها العسكري، لأنها تدرك أن واشنطن والغرب أضعف من ذلك بكثير، لا بل اعتبر الكرملين أن فرض واشنطن عقوبات مالية على روسيا سيؤدي إلى "انهيار" النظام المالي الأميركي، متوعداً بأن روسيا ستخفض اعتمادها الاقتصادي على الولايات المتحدة "إلى الصفر" في حال فرض عقوبات.
التعاون الاقتصادي، بين روسيا والغرب، ليس أحاديا في فوائده. فكل الأطراف مستفيدة منه، وروسيا لها مخارج كثيرة، إذا ما طبق الغرب عقوباته الاقتصادية بحقها، وقد بدأت في قذف الكرة في الملعب الأميركي والأوروبي، بإعلانها أنها ستتخذ عقوبات بحق دول الناتو، إذا ما أقدمت على فرض أي عقوبات اقتصادية. وينبغي أن يوضع في الاعتبار، علاقة روسيا بمنظومة البريكس، التي تشكل قوة اقتصادية عالمية هائلة، وقد كشفت الصين بوضوح عن تضامنها، مع روسيا في أزمتها الحالية مع الغرب.
مقاربات تحريك القوة
اليوم تحرّك المضمر، القديم، المختبئ تحت الرماد، فلم تغفر روسيا لأوكرانيا التحالف مع الغرب، بحيث تكون خنجراً في خاصرتها، بنصب صواريخ باليستية أو وضع خطط حلف الناتو موضع التطبيق، وهو ما احتج عليه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشدّة إبان محاولة نصب صواريخ أطلسية مماثلة على الحدود الرومانية - والتشيكية (الروسية)، فهدّدت روسيا وأزبدت وأرعدت، والأمر بالنسبة إليها اختراق "لمجالها" الحيوي ومساس "بأمنها القومي" ومصالحها "التاريخية" واستراتيجيتها، لكن هذا شيء، وتحريك القوات الروسية في شبه جزيرة القرم شيء آخر ينطوي على عدد من المقاربات المهمة:
المقاربة الأولى للحدث قانونية، فروسيا تصرّ على أن تدخلها العسكري في شبه جزيرة القرم ينسجم مع قواعد القانون الدولي،
المقاربة الثانية تاريخية جيوسياسية، فروسيا ترتبط بأوكرانيا بأكثر من جذر ثقافي، باعتبارهما جزءًا من القبائل السلافية.
المقاربة الثالثة هي مقاربة عسكرية، ذلك إن روسيا لا تسمح باختراق أمنها، فلديها قاعدة حربية على البحر الأسود في شبه جزيرة القرم، وهي تعتبر المنطقة المقفلة لها ولنفوذها الاستراتيجي.
المقاربة الرابعة لها، أن تدخّل روسيا في أوكرانيا، يعني أنها بدأت استراتيجية جديدة إزاء حرب باردة حتى وإن بدت إرهاصاً.
كما كشفت الأزمة أن روسيا تمتلك وضوحاً ولديها استراتيجية بخصوص المشكلة الأوكرانية، في حين أن واشنطن والاتحاد الأوروبي ظلاّ مترددين ولا يملكان استراتيجية محدّدة كما هم الروس.