قناة السويس..
ممر استراتيجي وصراع إقليمي
وسام سعد
لم يدرك الـ 125 ألف عامل المصري الذين قضوا اثناء حفر القناة (1859 ـ 1869) ، إلى أنهم غيروا بزنودهم وأجسادهم السمراء خريطة الممرات البحرية في العالم من جديد، وبعد أن حول نائب القنصل العام الفرنسي، مسيو دى لسبس، دراساته إلى واقع.
لم يؤثر عمل انساني مادي في علاقات الأمم بالقدر الذي فعله شق قناة السويس، إذ من الصعب أن نتصوَّر إنجازاً آخر في حدود القدرة البشرية يمكن أن يغيّر أوضاع الطبيعة أكثر منها.
فبعملية «جراحية» جغرافية بسيطة، تمَّ اختزال قارة بأكملها هي إفريقيا. القناة أعادت وضع مصر، والمشرق العربي في قلب الدنيا وجعلتها بؤرة الخريطة العالمية.
تعتبر قناة السويس، أهم شريان مائى للتجارة العالمية بين الشرق والغرب، واهم طريق مائية تسلكها حركة النفط بين مصادر الإنتاج وأسواق الاستهلاك بصفة خاصة ولعل نظرة سريعة إلى خريطة العالم، تبين لنا فى وضوح كيف أن ـ المجال العام ـ لقناة السويس يشكل دائرة تقع داخلها أوروبا وأفريقيا واسيا ـ (الثالوث القاري)ـ ، وكذلك جزر الهند الشرقية واستراليا، ويصل أيضا حتى السواحل الشرقية لأميركا الشمالية.
وبذلك تتشكَّل أهمية قناة السويس الجيوستراتيجية كمعبر أقصر، وأسرع، وأقل كلفة، ما بين شرق الكرة الأرضية، وغربها، وما بين مصادر الطاقة الضرورية للغرب، ونقلها الآمن، وما بين أسواق الاستهلاك الضرورية لتصدير الصناعات الغربية إلى الشرق.
موقع استراتيجي
شكل الموقع الجغرافي للقناة البعد الاستراتيجي لمصر في قلب منطقة الشرق الأوسط وجعلها لاعباً جيوستراتيجياً على مستوى المنطقة من البحر الأحمر والجزيرة العربية، حتى مضيق باب المندب والدول المشاطئة. وبما أن مصر نقطة الوصل والفصل بين قارتي آسيا وافريقيا، فقد رفع وجود القناة في أراضيها من أهميتها وجعلها محط أطماع الدول الكبرى، وأيضا الصغرى الغنية بالنفط والغاز والمال أيضاً كالإمارات العربية المتحدة وقطر.
وبهذا المعنى، تعتبر الولايات المتحدة قناة السويس من أهم النقاط الحيوية والمعابر المائية الاستراتيجية في أمنها القومي، لذلك فهي تحتفظ بقواعد لها في بعض البحيرات التي تمر القناة فيها (التمساح، والمرّة) ما يتيح لها التدخل السريع في حال تعرُّض القناة لأي خطر على أمنها
ومع هذه الأهمية الاقتصادية الاستراتيجية للقناة، تتكثَّف هموم أمنها سواء بالنسبة إلى مصر أم لبقية دول العالم وخاصة بعد المتغيِّرات الأخيرة التي حدثت في مصر وتداعياتها الإقليمية.
صراع قطري ـ إماراتي
"لا تقتربوا من قناة السويس". تحذير لم يتردد الجيش المصري في توجيهه، سواء أكان في مواجهة المحتجين الذين حاولوا الاقتراب من المجرى الملاحي للقناة، أم السياسيين والمستثمرين، كما جرى قبل أشهر، بعد تصاعد الحديث عن سباق قطري - إماراتي للاستحواذ على مشاريع تطوير القناة التي كان يرى فيها الإخوان المسلمون منقذاً اقتصادياً لهم بعدما حاولوا تسهيل مشاريع دولة قطر المشبوهة، وهو ما رفضه الشعب المصري الذي أعتبر الهيمنة القطرية على القناة تشكل خطراً على المصالح القومية لمصر. لأن السائد في مصر أن قطر تريد «خنق القناة» بتملّكها مشروعات تحيط بها، وإلا لماذا وضعت الدوحة ملياراتها في عنق القاهرة؟
أصبحت القناة ساحة خلفية وأداة صراع إقليمية، بعدما قفز مشروع تطوير الممر الملاحي إلى الواجهة عقب هيمنة الإخوان على مصر. وقد دفعت هيمنة الإخوان هذه إلى فتح الباب واسعاً أمام القطريين للاستحواذ على المشاريع على حساب المشاريع الإماراتية التي كانت قائمة منذ سنوات، وبذلك تدور الأحاديث عن صراع قطري - إماراتي بشأن انعكاسات المشروع الملاحي على كل منهما. فالاستثمارات القطرية في مصر تأخذ منحى تصاعدياً، ووجود يد اقتصادية طولى للقطريين في مصر قد ظهر بشكل جدي مع تصريحات رئيس الوزراء القطري السابق، حمد بن جاسم، «بأن قطر لن تترك مصر تسقط اقتصادياً»، فضلاً عن منح قطر لمصر مساعدات ووديعة تقدر بحوالى 5 مليارات دولار، إلى جانب استحواذ الدوحة على مصرف البنك الأهلي سوسييته جنرال «NSGB». لكن هذا كله قد لا يعني شيئاً مهماً مقارنةً مع ما يتردد عن رغبة القطريين في الاستحواذ على نسبة كبيرة من استثمارات الإماراتيين في منطقة السويس.
ووفقاً للصحافي السويسي، سيد نون، فإن السويس تضم أكبر منطقة صناعية في المنطقة بطاقة 480 مصنعاً وشركة، كما أنها مصدر جذب كبير للاستثمارات المصرية وغير المصرية، لافتاً إلى أن العين السخنة (منتجع سياحي واستثماري وصناعي على ساحل خليج السويس) يوجد فيها أكبر ميناء حاويات، وتسيطر عليها شركة موانئ دبي العالمية، وأن قطر تتمنى إبعاد موانئ دبي عن هذه المنطقة.
وفي حين تسعى قطر إلى استثمار الفرصة الحالية في اهتزاز الموقف الاقتصادي لموانئ دبي، فإن الإمارات تخشى من إمكان السيطرة القطرية على المشروع الملاحي، على اعتبار أنه سيكون ضربة إضافية للمشروع الاماراتي الهادف إلى الحضور بنجاح في مناطق استراتيجية من العالم. وهو المشروع الذي تلقّى أكثر من ضربة في الأعوام الماضية، وآخرها اضطرار موانئ دبي قبل أشهر إلى التخلي عن كامل حصتها في شركة «دبي وعدن للتطوير» بعد أربع سنوات من إدارة موانئ عدن اليمنية التي تعد المحور الاستراتيجي المؤثر في منطقة القرن الأفريقي. ويضاف إلى ذلك فشل الامارات عام 2006 في الفوز بمناقصة إدارة 6 من الموانئ الأميركية لأسباب تتعلق بالأمن القومي الأميركي.
في ضوء هذا "الهجوم" القطري، جاءت ممانعة الجيش وتحفظاته الكثيرة على وجود استثمارات أجنبية على جانبي الممر الملاحي، أياً كان مصدرها. وسبق للجيش أن أكد أن «محور قناة السويس هو نقطة ارتكاز أساسية في قضية الأمن القومي المصري»، إن باعتبارها مصدراً رئيسياً للدخل القومي المصري أو باعتبارها محور ارتكاز بالنسبة إلى عمليات القوات المسلحة المصرية، وخصوصاً أهميتها بالنسبة إلى قوات الجيش التي تتمركز في سيناء.
التفاف "إسرائيلي"
أما على الجانب الإسرائيلي، فهذه القناة وهذا المشروع هو بمثابة صداع دائم لها. وتبحث "إسرائيل" طوال الوقت عن طريقة تنافس بها قناة السويس، كان آخرها إطلاق دولة الاحتلال العام الماضي مشروع خط السكة الحديد الذي يربط بين تل أبيب المطلة على البحر المتوسط وميناء إيلات المطل على البحر الأحمر ليكون بديلاً أو منافساً لقناة السويس.
ووفقاً لبيان صادر عن الحكومة الإسرائيلية وقت التصديق على هذا المشروع، فإنه سيمتد لمسافة 350 كيلومتراً وتستمر أعماله قرابة 5 أعوام ليكون بمثابة الجسر بين الدول الآسيوية والجانب الأوروبي، إضافة إلى مهمة شحن الغاز الإسرائيلي بعد اكتشاف كميات منه في البحر المتوسط.
إلا أن الباحث محمود كمال يؤكد أن الدراسات والأبحاث تثبت أن النقل البحري هو الأكثر سرعة والأقل كلفة، "فتهديد المشروع الإسرائيلي يجب أن ينبهنا إلى أهمية التطوير لكنه لا يقلق على المستوى الاستراتيجي".