حروب النيل.. طموح أثيوبيا ومأزق مصر
هل تتحول مسألة المياه الى سلاح سياسي يفجر حروب المستقبل في دائرة الشرق الأوسط؟
وهل صحيح أن ما انطبق على النفط طوال القرن العشرين سينطبق على المياه خلال القرن الحادي والعشرين؟
هذان السؤالان غير المواربان و"المشتعلان" في آن، تكشفه وتؤكده حال الجفاف التي تتفاقم في في مصر والسودان بسبب غياب الاتفاق حول المياه مع أثيوبيا التي "تقبض" على منابع البحيرات التي تغذي نهر النيل.
رغم توقع حدوثه منذ سنوات ومن تأكيدات أديس أبابا بعدم تأثيره على مصر، أثار قرار إثيوبيا البدء في تحويل مجرى مياه النيل الأزرق في العام 2013 تمهيدا لبناء سد النهضة أو سد الألفية غضب الأوساط المصرية الشعبية التي تخشى تجفيف نهر النيل، ذلك الينبوع الحيوي، وذلك على غرار المردود السلبي لسد أتاتورك في تركيا على العراق وسورية.
وتعود أزمة تحويل مجرى النيل إلى أيار 2010 عندما قررت 6 من دول منابع النهر التوقيع في مدينة عنتيبي الأوغندية على معاهدة جديدة لاقتسام موارده، ومنحت القاهرة والخرطوم مهلة عام واحد للانضمام إلى المعاهدة.
وتنص "اتفاقية عنتيبي" على أن التعاون بين دول مبادرة حوض النيل يعتمد على الاستخدام المنصف والمعقول للدول.
واتخذت الدول الأعضاء مؤخرا إجراءات التصديق عليها من برلماناتها، وبمجرد سريانها تنتهي الحصص التاريخية لمصر والسودان وفقا لاتفاقيات 1929 و1959 التي بموجبهما تحصل مصر حتى الآن على 55.5 مليار متر مكعب من المياه سنويا، والسودان على 18.5 مليار.
ووقعت على هذه الاتفاقية 6 دول هي إثيوبيا وأوغندا وكينيا وتنزانيا ورواندا وبوروندي، بينما رفضت كل من مصر والسودان والكونغو الديمقراطية الانضمام إليها. وفي آذار 2013، أعلنت دولة جنوب السودان أنها ستنضم إلى الاتفاقية.
واعتبرت القاهرة والخرطوم أن الاتفاقية "مخالفة لكل الاتفاقيات الدولية"، وأعلنت أنها ستخاطب الدول المانحة للتنبيه على عدم قانونية تمويل أي مشروعات مائية، سواء على مجري النيل أو منابعه وإقناعها بعدم تمويل المشروع الذي سيتكلف نحو 4.8 مليارات دولار أميركي، حسب رئيس الوزراء الإثيوبي الراحل مليس زيناوي.
لكن إثيوبيا، وباقي دول اتفاقية عنتيبي، لم تعر احتجاجات القاهرة والخرطوم اهتماما ومضت بخطى حثيثة، ودشنت في أول نيسان 2011 مشروع "سد الألفية الكبير" أو "سد النهضة" لإنتاج الطاقة الكهرومائية بولاية بني شنقول الإثيوبية القريبة من الحدود السودانية.
ويحجز السد، الذي انتهى العمل فيه في أيار 2013، نحو 63 مليار متر مكعب من المياه. ويقدر الخبراء المصريون خسائر مصر من إقامة سد النهضة بفقدانها أكثر من تسعة مليارات متر مكعب من حصة مصر التاريخية في مياه النيل، ما سيؤدي إلى انخفاض المساحات المزروعة وزيادة الفجوة الغذائية، إضافة إلى انخفاض كميات الكهرباء المولدة من السد العالي وخزان أسوان، الأخطر من ذلك أن المصريين يقولون باحتمال أن يتصدع السد بسبب الزلازل، ويؤدي إلى كارثة تغرق السودان وأجزاء من الأراضي المصرية.
الخطر الأكبر يكمن في الاستهداف العسكري للسد لأي سبب أو توظيفه لأغراض عسكرية أو حتى وجود احتمالية لانهياره بسبب أي أخطاء في التصميم أو لطبيعة المنطقة التي أقيم فيها، كما يقول بعض الخبراء، ما يؤدي إلى انهيار خزاناته لتتدفق المياه بشكل مفاجئ وهو الأمر الذي ينذر بفيضانات هائلة وغرق لمساحات شاسعة في السودان ومصر.
وحول تأثير السد على مصر، قال الصحفي عطية عيسوي، الخبير في الشؤون الأفريقية، لـ"سكاي نيوز عربية" إنه يجب على القاهرة "إقناع الحكومة الإثيوبية بإطالة فترة ملء البحيرة التي ستتكون وراء سد النهضة".
وأضاف "إذا تمكنا من إقناعهم بملء البحيرة على 40 أو 30 عاما أو حتى 20 سنة، فإن ذلك سيقلل من الأضرار التي ستصيب كلا من مصر والسودان، أما إذا صمموا على أن تملأ في غضون خمس أو سبع سنوات فهذا يعني تجفيف ما بين 61 إلى 65 مليار متر مكعب كانت تصل إلى مصر والسودان من إجمالي 85 مليارا".
وحذر عيسوي من القيام بأي عمل عسكري أو تخريبي مصري ضد السد، مذكرا بمتانة العلاقات بين إثيوبيا والقوى الدولية العظمى، خاصة الولايات المتحدة وبريطانيا، قائلا: "يجب أن نعرف أن ذلك سيجر على مصر الكثير من المشاكل ويجب أن تدرك القاهرة أن الدول العظمى تساند إثيوبيا وتستمع لها ولا تنصت لمصر".
وتعيد تطمينات إثيوبيا إلى الأذهان، تلك التي قدمتها تركيا عند قيامها ببناء سد أتاتورك على نهر الفرات، الذي أدى عند الانتهاء منه في 2005، إلى خلق ظروف كارثية في كل من سورية والعراق خلافا لما تعهدت به أنقرة.
وكانت تركيا قد بدأت بناء سد أتاتورك في 1983، ضمن مشروع ضخم لبناء 15 سدا يجري حاليا الإعداد لاستكمالها بتكلفة كلية مقدارها 33 مليار دولار، ضاربة عرض الحائط بعشرات السنين من الاعتراضات العراقية والسورية.
وأدى السد إلى حرمان سورية من 40 % من حصتها من مياه نهر الفرات، بينما كان المردود على العراق أكثر سوءا حيث لم يعد يحصل سوى على ثُمن حصته عام 1989.
ولم تفتح تركيا صنبور المياه إلا قليلا في عام 2009 على أثر مفاوضات بين الدول الثلاث، اشتكت خلالها سورية والعراق من أن "سد أتاتورك يخنق البلاد"، خاصة بعد أن سادت حال من الجفاف آنذاك.
لا شك أن الواقع السياسي والجغرافي والتاريخي يشير إلى وجود مصلحة وطنية خالصة ومصيرية لمصر في منظومة حوض نهر النيل، لا تستطيع دولة ولا مجموعة من الدول أن تنال من هذا الواقع الحى والملموس، تحت أي ذربعة من الذرائع، وفي الوقت الذى تحسم فيه مصلحة مصر الوطنية في حوض نهر النيل، فمن زاوية االتناول والتوضيح لتلك المصلحة، والسعي الدؤوب من أجل إقناع الدول الأخرى صاحبة المصالح فى منظومة حوض نهر النيل، بل ودفعها للاعتقاد اليقيني بمصالح مصر العليا فى هذا الشأن، فإن الأمر له وجه آخر ينبغي على الدولة المصرية إدراكه وتفهمه والاعتقاد بصحته وبمشروعيته، ألا وهو المصالح العليا لدول حوض نهر النيل من زاوية أخرى، حتى يكون هناك انصاف، وموضوعية وعدالة فى التناول والتعامل مع قضايا ومشكلات حوض نهر النيل والتداعيات الناجمة عنها حاضراً ومستقبلاً.
بمعنى أن أزمة إدارة حوض نهر النيل تتركز على كيفية إدارة التعارض بين المصالح العليا للدولة المصرية والمصالح العليا لدول حوض نهر النيل، وهو الأمر الذي يتطلب حتمية إحداث التوافق والتوزان بين أهداف ومصالح تلك الدول من أجل احترام وإعلاء شأن منظومة المصالح على وجه الإجمال، وبدرجة عالية من الموضوعية والواقعية الإيجابية.