ستشكل عودة الحرارة بين روسيا وتركيا فرصة إقتصادية مهمة لأنقرة التي كانت تعيش تداعيات سياستها الخارجية الفاشلة الناتجة من تورم في العقل التركي وتوهم بإمكانية عودة العثمانية من جديد، كما جاءت عكس ما اصطلح عليه مصطلح "صفر أعداء" لتتحول إلى "صفر أصدقاء" و"صفر إقتصاد".
وإذا كانت هذه الحرارة ستشكل نعمة للشركات التركية في النهوض الإقتصادي فإن رفع العقوبات عن إيران بعد الاتفاق النووي كان نعمة ونقمة لتركيا في آن واحد، وإذا كان المشهد التركي سيفتح إمكانية الاستفادة من سوق سريعة النمو مضمونة الربح، إلا أنها في الوقت نفسه سوق قد تصبح في يوم من الأيام منافسة لأنقرة كوجهة للاستثمارات ودولة مصدرة.
لاتزال تركيا وإيران، محركان إقتصاديان كبيران في المنطقة، إذ بلغ ناتج الأولى ما يقرب من 800 مليار دولار عام 2014 بالمقارنة مع 425 مليار دولار للثانية (لا تزال تعيش تحت وطأة العقوبات الإقتصادية عليها)، كما أنهما مركزان متقدمان للصناعات التحويلية. ويلخص مسؤول كبير في شركة تركية كبرى في مجال صناعة الأسمنت أن المستقبل الإقتصادي التركي بالتالي: "المدخل صاحب التكلفة الأعلى هو الطاقة.. والطاقة رخيصة في إيران.. المنافسة صعبة مستقبلا".
في العلاقات الروسية التركية، يبدو خلال الفترة التي تدهورت فيها العلاقات بين البلدين، أن الخسارة الإقتصادية تجاوزت حدًّا كبيرًا بين الطرفين، ما دعا إلى ضرورة إعادتها، ولا سيما في مسألة تصدير الغاز الروسي إلى تركيا واستئناف مشاريع الطاقة والتدفق السياحي وإنعاش التصدير والاستيراد بين البلدين.
في هذا الإطار، جاء سعي أنقرة إلى استئناف سريع للعلاقات التقليدية بينهما، كما عبرت تقارير صحافية عن ذلك، فيما من المتوقع أن تستمر رحلة "التطبيع" بين الطرفين، حيث اعتبر أردوغان روسيا شريكاً استراتيجيّاً لبلاده، بحسب بيان للكرملين. وقال الرئيس التركي خلال استضافته مئات المواطنين والتجار الأتراك، إن بلاده اتخذت العديد من الخطوات لإزالة السلبيات الناجمة في علاقاتها مع روسيا، مضيفاً أرجو أن يكون الاتفاق الذي توصلنا إليه مع روسيا، وسيلة خير لمصلحة الشعبين التركي والروسي.
كانت روسيا قد فرضت قيوداً وتدابير إقتصادية ضد تركيا شملت مشاريع الطاقة "السيل التركي" ومحطة "أك كويو" الكهرذرية، وذلك بعدما قامت أنقرة بإسقاط الطائرة الحربية الروسية في سورية.
وكانت تركيا تعد شريكا تجاريّاً مهمّاً لروسيا، إذ بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين في عام 2013 نحو 32.7 مليار دولار أميركي. في حين لم يتجاوز حجمه الـ 17.5 مليار دولار أميركي مع الولايات المتحدة، على حد قول وزير العلوم والصناعة والتكنولوجيا التركي فكري إيشيك.
ويرى محللون إقتصاديون أن إيقاف تنفيذ مشروع "السيل التركي" الهادف إلى نقل الغاز الروسي إلى تركيا ومنها إلى أوروبا، والذي تبلغ قدرته التمريرية نحو 63 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً، قوض مساعي تركيا في التحول إلى مركز إقليمي لتوزيع الطاقة.
كما فرضت موسكو اعتبارا من بداية عام 2016، قيودا على نشاط الشركات التركية في روسيا، تضمنت حظر العمل على هذه الشركات في قطاعات البناء والسياحة والفنادق، وتقديم خدمات لاحتياجات الدولة.
شكل التغيير في السياسة التركية دليلًا على ضربة قوية لسياسة رئيس الوزراء التركي السابق أحمد داود أوغلو، الذي أصر على عدم فتح باب الصداقة مع روسيا كما يفعل اليوم خلفه بن علي يلديرم، رئيس الحكومة الجديد في حزب العدالة والتنمية، إلا أن مراقبين يعتبرون الاعتذار سياسة تركية بغض النظر عن الأشخاص الذين يطبقونها. ويطرح مراقبون تساؤلات حول ما إذا كانت أنقرة قد فقدت الأمل بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وهي بهذا الاعتذار تفتح بابًا جديدًا مع روسيا التي قد تعوضها عن أوروبا تجاريًّا وإقتصاديًّا.
وكان المراقبون للعلاقات التركية الروسية قد أكدوا أن الروابط الإقتصادية هي المحدد الأكبر للعلاقات بين البلدين، والركن الذي يمنع من تأزمها أو تدهورها بشكل دراماتيكي، خاصة في ضوء وجود هيئة للتعاون المشترك تسمى "المجلس الأعلى للتعاون التركي الروسي".
وتكمن أهمية هذا المسار في أن روسيا تعتبر أهم مورِّد للغاز الطبيعي إلى تركيا، إذ تستورد الأخيرة سنويا 16 مليار متر مكعب من الغاز الروسي عبر الخط البحري (قرابة نصف وارداتها من الغاز الطبيعي)، إضافة إلى 12% من وارداتها النفطية، وهي ثاني أكبر شريك تجاري لتركيا.
في المقابل، تعد تركيا سابع شريك تجاري لروسيا وثاني أكبر سوق تصديرية لها بعد ألمانيا، وهي الوجهة الأولى للسياح الروس الذين يصل منهم إلى تركيا ستة ملايين سائح سنويا.
وقد وقع البلدان أكثر من ستين اتفاقية في مجالات التعاون المختلفة خاصة في مجالات الطاقة الكهربائية وبناء سفن الشحن والنقل البحري، وبينهما تبادل تجاري يزيد على 33 مليار دولار سنويا، ويتوقع أن يرتفع إلى مئة مليار بحلول عام 2023.
كان لافتاً أن تتجاوز تركيا بعد 2008 الأزمات المالية والإقتصادية العنيفة التي ضربت شركاءها التجاريين في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لتحقق في الفترة 2007 - 2010 متوسط نمو بواقع 8 في المئة لم تسبقها إليه سوى الصين. وبين 2002 و2012 ارتفع حجم التبادل التجاري التركي مع الدول العربية إلى نحو 45 مليار دولار أميركي، بواقع 300 في المئة. وكانت 85 ألف شاحنة تركية تعبر سورية سنوياً إلى دول الخليج العربي محملة ببضائع تركية قبل إقفال المنافذ الجمركية السورية نتيجة الحرب.
في غضون سنوات عشر رفع الناتج المحلي لتركيا بواقع الضعف، إلى 800 مليار دولار أميركي من نحو 400 مليار، فبات الإقتصاد السادس عشر عالمياً والأول في منطقة الشرق الأوسط.
لا شك أن الإقتصاد التركي كان قد دخل مرحلة اللاعودة في ظل توتر العلاقات مع روسيا؟ المنحنى الحاد للإقتصاد التركي كان يوحي بذلك بما لا يقبل التأويل والاجتهاد.. ولطالما كان كتاب "الأمير" لمكيافيلي يشكل للدول هادياً باعتبار مبدأه القائم على "الغاية تبرر الوسيلة"، وإذا كانت الغاية إنعاش الإقتصاد التركي فلا يمنع أن تكون الوسيلة كلمة اعتذار.
لقد تأبط أردوغان حقيبة من الضغوط الإقتصادية والسياسية، الواضح أنه وحزب العدالة والتنمية لم يعودا قادرين على التوفيق بين السياسات الإقتصادية الليبرالية وبين ميول الحزب الإسلامية.