التنمية المستدامة... مزيد من النقاش
وسام سعد
قال ألبرت آينشتاين ذات مرة إنه إذا لم يكن لديه سوى ساعة واحدة لإيجاد حل تتوقف عليه حياته فإنه سيمضي الخمس والخمسين دقيقة الأولى في تعريف المشكلة، وبمجرد أن يعرف السؤال الصحيح الذي ينبغي له أن يطرحه على نفسه، سيكون بوسعه أن يحل المشكلة في أقل من خمس دقائق. واليوم تواجه البشرية مثل هذه المشكلة التي تهدد الحياة: فكيف نوفر التغذية الكافية والنوعية اللائقة من الحياة لسكان العالم الذين من المنتظر أن يتجاوز عددهم تسعة مليارات بحلول عام 2050، وذلك دون الإضرار بأنظمة دعم الحياة على كوكبنا على نحو غير قابل للإصلاح؟ لإيجاد الحل يتعين علينا أن نبدأ أولاً بتعريف التنمية المستدامة:
تميز العقد الماضي من العمل البيئي على مستوى العالم بسيادة مفهوم التنمية المستدامة والذي تمت صياغته للمرة الأولى من خلال تقرير " مستقبلنا المشترك" الذي صدر عام 1987 عن اللجنة العالمية للتنمية والبيئة برئاسة رئيسة وزراء النرويج السابقة جرو هارلم برونتلاند. وقد كان مفهوم التنمية المستدامة مفهوما جديدا وثوريا في الفكر التنموي إذ أنه وللمرة الأولى دمج ما بين الاحتياحات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية في تعريف واحد.
وحسب تعريف لجنة برونتلاند الذي أصبح علامة فارقة في السياسات البيئية والتنموية منذ التسعينات من القرن الماضي فإن التنمية المستدامة هي " التنمية التي تأخذ بعين الاعتبار حاجات المجتمع الراهنة بدون المساس بحقوق الأجيال المقبلة في الوفاء باحتياجاتهم".
صياغة السياسة البيئية
يبدو أن التنمية المستدامة هي التي تصيغ اليوم الجزء الأكبر من السياسة البيئية المعاصرة وقد كان للعمومية التي اتصف بها المفهوم دورا في جعله شعارا شائعا وبراقا مما جعل كل الحكومات تقريبا تتبنى التنمية المستدامة كأجندة سياسية حتى لو عكست تلك الأجندات التزامات سياسية مختلفة جدا تجاه الاستدامة، حيث تم استخدام المبدأ لدعم وجهات نظر متناقضة كليا حيال قضايا بيئية مثل التغير المناخي والتدهور البيئي اعتمادا على زاوية التفسير، فالاستدامة يمكن أن تعني أشياء مختلفة، بل متناقضة أحيانا، للاقتصاديين، وأنصار البيئة، والمحامين، والفلاسفة. ولذا يبدو أن التوافق بين وجهات النظر تلك بعيد المنال.
ولذلك فإن شيوع فكرة التنمية المستدامة في أدبيات التنمية السياسية منذ منتصف ثمانينات القرن العشرين مثل في جزء منه محاولة لتجاوز إخفاق النظرية السلوكية في مجال التنمية، التي تبنت نموذج الحداثة، والبحث عن نموذج جديد يعمل على التوفيق بين متطلبات التنمية والحفاظ على بيئة سليمة ومستدامة.
وتحاول حركة الاستدامة اليوم تطوير وسائل اقتصادية وزراعية جديدة تكون قادرة على تلبية احتياجات الحاضر وتتمتع باستدامة ذاتية على الأمد الطويل، خاصة بعدما أتضح أن الوسائل المستخدمة حاليا في برامج حماية البيئة القائمة على استثمار قدر كبير من المال والجهد لم تعد مجدية نظرا لأن المجتمع الإنساني ذاته ينفق مبالغا وجهودا أكبر في شركات ومشاريع تتسبب في إحداث مثل تلك الأضرار. وهذا التناقض القائم في المجتمع الحديث بين الرغبة في حماية البيئة واستدامتها وتمويل الشركات والبرامج المدمرة للبيئة في الوقت نفسه هو الذي يفسر سبب الحاجة الماسة لتطوير نسق جديد مستدام يتطلب إحداث تغييرات ثقافية واسعة فضلا عن إصلاحات زراعية واقتصادية.
خصائص التنمية المستدامة
أهم الخصائص التي جاء بها مفهوم التنمية المستدامة، هو الربط العضوي التام ما بين الاقتصاد والبيئة والمجتمع، بحيث لا يمكن النظر إلى أي من هذه المكونات الثلاثة بشكل منفصل، فلا بد من أن تكون النظرة التحليلية إليهم متكاملة معا.
ولكن كيف يمكن قياس التنمية المستدامة؟
بالرغم من إنتشار مفهوم التنمية المستدامة إلا أن المعضلة الرئيسية فيه بقيت الحاجة الماسة إلى تحديد مؤشرات Indicators التي يمكن قياس مدى التقدم نحو التنمية المستدامة من خلالها، وبذلك تساهم مؤشرات التنمية المستدامة في تقييم مدى تقدم الدول والمؤسات في مجالات تحقيق التنمية المستدامة بشكل فعلي وهذا ما يترتب عليه اتخاذ العديد من القرارات الوطنية والدولية حول السياسات الاقتصادية والاجتماعية.
فمنذ عقود، تسبب البشر في تغير الأنظمة البيئية على الأرض جذريا، ومن خلال التدخل في دورة الكربون والنيتروجين والماء والفسفور تعمل الأنشطة البشرية على إحداث تغيرات في الغلاف الجوي والمحيطات والمجاري والغابات والصفائح الجليدية، فضلاً عن تقليص التنوع البيولوجي.
والواقع أن التأثيرات التي يخلفها السلوك البشري على الأنظمة البيئية لكوكب الأرض أصبحت كبيرة للغاية في القرون القليلة الماضية، حتى إن العديد من العلماء الآن يعتقدون أن الكوكب دخل حقبة جيولوجية جديدة يطلقون عليها اسم الأنثروبوسين (عصر الإنسان).
القيم الإنسانية المشتركة
الواقع أننا بحاجة إلى نهج جديد في صياغة التنمية المستدامة، فبدلاً من الركون إلى أعمدة منفصلة تقوم عليها، ينبغي علينا أن ننظر إلى الاقتصاد باعتباره مجتمع خدمات يزدهر داخل بيئة طبيعية آمنة، ومن هذا المنظور ينبغي إعادة تعريف التنمية المستدامة بوصفها "تنمية تلبي احتياجات الحاضر، وتحرص في الوقت نفسه على الحفاظ على نظام دعم الحياة على الأرض، والذي تتوقف عليه رفاهة الجيل الحالي وأجيال المستقبل". إن صحة كوكب الأرض وازدهاره شرط أساسي لحياة صحية ومزدهرة لسكانه من البشر.
قي ضوء ذلك، تجري حاليا على قدم وساق عملية تحديد أهداف التنمية المستدامة، التي يفترض أن تدخل حيز التنفيذ في عام 2015، ففي الأسبوع الماضي التقى ممثلو 69 دولة في الأمم المتحدة بنيويورك، ومن المقرر أن تلتقي مجموعة من الخبراء هذا الأسبوع. ولابد من أن تكون الأهداف قابلة للقياس والتحقيق وأن تتجاوز السياسات الوطنية؛ ولابد من أن تلهم الإدارات الإقليمية والمحلية والشركات والمجتمع المدني والأفراد في كل مكان، وتحملهم على تغيير سلوكهم. وينبغي لهذه الأهداف أن تستند إلى القيم الإنسانية المشتركة والعلوم ذات الصلة.
أهداف قابلة للقياس
حدد تقرير نشر بعنوان "أهداف التنمية المستدامة من أجل البشر والكوكب"، ما هو مطلوب، وقد قام بتعريف ستة أهداف عالمية للتنمية المستدامة وهي: الحياة وسبل العيش، والأمن الغذائي، واستدامة الإمدادات من المياه النظيفة، والطاقة النظيفة، والأنظمة البيئية الصحية، والإدارة الرشيدة.
تتلخص الخطوة التالية في تحديد أهداف قابلة للقياس، مثل توفير حياة أفضل لساكني الأحياء الفقيرة، أو خفض معدلات إزالة الغابات. وسوف يتطلب إحراز تقدم حقيقي في أي من الأهداف الستة الاستعانة بنهج شامل في ظل سياسات تغطي المجالات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.
وعلى سبيل المثال، يستلزم هدف القضاء على الفقر توفير الغذاء والمياه والطاقة، والقدرة على الوصول إلى فرص العمل المجزية. ولكن توفير الطاقة للجميع يتطلب من الحكومات أن تتوقف عن صرف إعانات دعم الوقود الأحفوري والزراعة غير المستدامة.
ويظل تحقيق الأمن الغذائي أمرا مستحيلا في ظل غياب أنظمة وممارسات زراعية لا تدعم المزارعين وتنتج الغذاء الكافي لتلبية احتياجات الناس فحسب، بل وتحرص أيضاً على الحفاظ على الموارد الطبيعية، من خلال منع تآكل التربة -على سبيل المثال- والاعتماد على أسمدة نيتروجينية وفسفورية أكثر كفاءة.
لقد نجحت الأهداف الإنمائية للألفية - التي من المقرر أن تنتهي آجال تنفيذها في 2015- لأنها تمكنت من تنظيم الموارد الدولية وتوفير التمويل اللازم لمعالجة مجموعة مركزة من القضايا المرتبطة بالفقر. وينبغي لأهداف التنمية المستدامة أن تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، فهي كمثل تجربة آينشتاين الفكرية تتوقف عليها حياة العديد من الناس.
ختاما:
نعود إلى التأكيد على أنه برغم أن مفهوم التنمية المستدامة قد لقي قبولا واستخداما دوليا واسعا منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي إلا أن العالم لم ينجح حتى الآن في تبني خطوات حقيقية جادة على طريق الاستدامة الحقيقية نحو التوفيق بين تلك التناقضات بين التنمية والبيئة الناتجة عن نموذج التنمية المهيمن منذ منتصف القرن العشرين مما يجعل البشرية تواجه مستقبلا محفوفا بالمخاطر وعدم التيقن. ومن هنا، تخلص هذه القراءة إلى أن التحول نحو الاستدامة المنشودة لا يبدو ممكنا بدون حدوث تغير رئيس وجذري على مستوى النموذج المعرفي السائد بعيدا عن قيم الحداثة، والاستعلاء، والاستغلال المتمركز حول الإنسان باتجاه بلورة نموذج معرفي جديد يتصف بالشمول ولا يتمركز حول الإنسان وينظر للعالم كوحدة كلية مترابطة بدلا من أن يكون مجموعة متناثرة من الأجزاء، ويمكن من خلاله دمج جهود التنمية المستدامة وجهود الحفاظ على البيئة بطريقة مفيدة للطرفين من أجل الصالح العام للجيل الحالي والأجيال المقبلة على السواء، وأن يكون ذلك التحول مصحوبا باهتمام بالبناءات السياسية الاجتماعية التي يمكن أن تكون أكثر دعما للاستدامة. وأخيرا نرجو أن تسهم هذه القراءة في استثارة مزيد من النقاش والدراسات حول أهمية الفكر والسياسة في البحث عن طريق ممكن تجاه الاستدامة.