القطاع المصرفي القبرصي يذهب ضحيّة العولمة
هل تقود الحلول إلى جحر الأفاعي؟
في الركن الشمالي الشرقي في البحر المتوسط تتلاقى حقول وأنابيب غاز ونفط وأساطيل دول وأزمات حادة ينتشر أطرافها في قبرص وتركيا واليونان وسوريا ولبنان، وكذلك مصر و"إسرائيل" ... الأزمة القبرصية لم تكشف ما تحت جبل الجليد
ضرائب إضافية
يرى أغلب المحللين بأن الحلول التي اقترحها الأوروبيون على الجانب القبرصي في بروكسيل لن تحل الأزمة بل على النقيض من ذلك تماما ستفاقمها. فمن بين الإجراءات التي اقترحها الجانب الأوروبي وسار في ركابها الجانب القبرصي هي تسليط ضرائب إضافية على الودائع (وأغلبها أجنبية روسية تحديدا إضافة إلى ودائع تعود لبلدان عربية على غرار لبنان) في البنوك القبرصية.
وسيؤدي هذا الإجراء بحسب أغلب الخبراء والمحللين إلى هروب المودعين الأجانب من البنوك القبرصية إلى "جنان ضريبية" أخرى ويفرغ المؤسسات المالية في الجزيرة من السيولة اللازمة لخلق الحركية المالية وإنعاش الإقتصاد. وسيهز من ثقة المستثمرين الأجانب في الجزيرة القادرة على الجذبين السياحي والمالي متى توفرت الظروف الملائمة لذلك.
صيغة روسية
شكّل النظام المصرفي القبرصي محطّ أنظار المستثمرين الروس حيث بلغت الودائع الروسيّة 31 مليار دولار أميركي وفق وكالة "موديز". كما بلغت الودائع الأوكرانيّة بين 6.41 الى 19.2 مليار دولار أميركي وفق حاكم مصرف أوكرانيا السابق. وهذه الودائع، مع تقاعس الحكومة القبرصيّة عن تشديد الرقابة على المصارف، دفعت وزير المال الألماني الى الطلب من أوروبا إجراء تحقيق حول تبييض الأموال في قبرص. وبعد مرات عدة وُجهت بالرفض من قبل الحكومة القبرصيّة، قبلت هذه الأخيرة بتحقيق من جهة ثالثة مستقلة.
وثلث هذه الودائع تقريبا، أو ما يعادل 22 مليار يورو، عبارة عن مبالغ مودعة من قبل المواطنين الروس، يشاع أن بعضها منهوبة من أموال الحكومة الروسية وبعضا آخر يمثل نوعا من غسيل الأموال.
ونظرا للوضع السياسي الهش لجزيرة قبرص الصغيرة، فقد شجعت السلطات القبرصية مصارفها على شراء السندات اليونانية مجاملة للحكومة اليونانية، كما شجعت الحكومة هذه المصارف على زيادة فروعها في اليونان دون مبرر اقتصادي.
إضافة إلى ذلك، شجعت المواطنين الروس منذ انهيار النظام الشيوعي هناك على أن يجعلوا قبرص منطلقا لهم إلى أوروبا. وقد ساعدها في ذلك الطقس المعتدل والتماثل الديني الأرثوذكسي، بحيث أصبح يسكنها قرابة 60 ألف مواطن روسي منحت الحكومة القبرصية 80 منهم جنسيتها، وأصبحوا يتنقلون بحرية في أوروبا.
يشار إلى أن روسيا عرضت في بداية الأزمة إقراض الحكومة القبرصية لتتمكن من حل أزمتها، إلا أن الاتحاد الأوروبي نصحها بعدم إتمام ذلك لأنه سيزيد دَيْن الحكومة إلى حدود لا تستطيع معها السداد، علما بأن قبرص مدِينة حاليا لروسيا بمبالغ تصل إلى 2.5 مليار يورو.
وهنا يبرز عدد من الأسئلة:
أ- إذا كان هذا الإجراء موجها لروسيا، فهل ستقبل الأخيرة بإعادة جدولة هذا القرض في الوقت الذي تصادر فيه الحكومة القبرصية جزءا من ودائع مواطنيها؟
ب- يشكل السياح الروس أكثر من 10 في المائة من السياح الذين يصلون سنويا إلى قبرص. ومع أهمية هؤلاء السياح لنمو الاقتصاد القبرصي وازدهاره، هل سيستمر هؤلاء السياح في القدوم في الوقت الذي تصادر فيه الحكومة القبرصية ودائعهم؟
ج- ما تأثير هذه الإجراءات مجتمعة في توجهات الاستثمارات الروسية ليس في قبرص وحدها وإنما في بقية الدول الأوروبية؟ هناك تكهنات بأنها سوف تبدأ في التوجه إلى الشرق وعلى الأخص الصين، ما سيزيد من القدرة التنافسية للصين أمام أوروبا.
شروط أوروبية
وأدّى تعرّض القطاع المصرفي القبرصي الى الدين السيادي اليوناني، الى محو نصف الأصول المستثمرة في هذه الديون وأوصل المصارف القبرصيّة الى مرحلة عدم القدرة على دفع الاستحقاقات ممّا دفعها الى طلب مُساعدة بقيمة 13 مليار دولار من أوروبا. لكنّ أوروبا وضعت شرطين لهذه المساعدة:
- إلقاء الضوء على تبييض الأموال في قبرص.
- الطلب من المودعين المشاركة في إنقاذ الجزيرة.
وخلق هذان الطلبان المحقّان مخاوفاً لدى السلطات الماليّة، المستثمرين وعامة الشعب في أوروبا والعالم.
والجدير بالذكر أنّ المصارف تعكس الحجم الحقيقي للإقتصاد، إلا أن هذه ليست حالة قبرص فحجم هذا القطاع يُشكل 7 مرات حجم الإقتصاد القبرصي. وإذا ما نظرنا الى البيانات الماليّة التابعة لمصرف LAIKI، نجد أنّ حجم الودائع يمثل 30 مليار يورو مقابل 1 مليار يورو كرأسمال، مما يُظهر هشاشة هذا القطاع الذي استثمر قسماً كبيراً من ودائعه في الديون السياديّة اليونانيّة والتي خسَّرت القطاع المصرفي القبرصي بحدود 6 مليار دولار في 2012.
قواسم لبنانية قبرصية
الأزمة المالية القبرصية وبعد أن زرعت القلق والرعب في الأوساط المصرفية اللبنانية عادت لتفتح الباب أمام تساؤلات طرحها الكثير من المراقبين لسير العاصفة المالية القبرصية.
فالقواسم المشتركة بين النظامين المصرفيين اللبناني والقبرصي عديدة ولكن في الوقت نفسه فالقطاع اللبناني لا يخلو من ميزات قد تكون ملجأ أمان له في الأوقات العصيبة.
ممّا لا شك فيه أنّ المصارف القبرصيّة وعلى الرغم من ودائعها الهائلة (أكثر من 150 مليار دولار) أظهرت مدى أهميّة التناغم بين حجم الاقتصاد وحجم القطاع المصرفي والذي ما هو إلا مموّل للدائرة الاقتصاديّة. من هنا، يُطرح السؤال حول قدرة القطاع المصرفي اللبناني على مقاومة أزمة في الماليّة العامة اللبنانيّة لما لها من تعرض للديون السياديّة اللبنانيّة. ويُمكن القول إنّ مغامرة بعض المصارف اللبنانيّة في دول الجوار كسوريا وقبرص أدت الى خسائر محدودة الى حدّ مُعيّن، ولكن يظهر اليوم أكثر من أيّ وقت مضى أنّ الرأسمال المطلوب ضمن معيار بازل 3 والذي تحترمه معظم المصارف اللبنانيّة لن يكفي لردع أزمة ديون سياديّة لبنانيّة، إلا إذا اعتمدت الحكومة في هذه الحالة مبدأ إشراك المودعين بإنقاذ المصارف اللبنانيّة. وهنا يُمكن القول إنّ مبدأ "قداسة الملكيّة"، أساس الاقتصاد الحر، سيذهب في مهبّ الريح.
ملاذات آمنة
وبالنتيجة، فإن الحديث لسنوات طويلة عن ملاذات آمنة لم يكن سوى كذبة كبرى بدليل ضياع أموال بلدان الربيع العربي، بما في ذلك تلك الموظفة في سويسرا والبلدان الغربية، وذلك رغم المحاولات المستميتة لاسترجاعها.
يحدث ذلك في الوقت الذي تزداد فيه الفوائض النقدية لدى البلدان العربية المنتجة للنفط، وذلك بفضل أسعار النفط المرتفعة، حيث بلغ الفائض لدولة الكويت وحدها في الأشهر العشرة الأخيرة 51 مليار دولار بحاجة لاستيعابها في منافذ استثمارية لا يمكن أن تستوعبها الأسواق المحلية وحدها.
ختاماً: تردد مؤخرا ضمن حملة الإثارة التي رافقت إعلان المصالحة الإسرائيلية التركية، أن تركيا ما كانت لتقدم على مصالحة إسرائيل على أيدي باراك أوباما لو لم تكن قد حصلت على وعد أميركي يتعلق بمستقبل الوحدة القبرصية ومرور الغاز القبرصي عن طريق الأراضي التركية إلى أوروبا.
وهكذا، يوما بعد يوم، يزداد الاقتناع بأن ما كشفت عنه الأزمة القبرصية حتى الآن لا يتجاوز ما يكشف عنه عادة جبل الجليد.