تعيش فرنسا هذه الأيام ترددات حرجة في تاريخها. فهي استقطبت إليها الأضواء بسبب احتضانها بطولة أوروبا للأمم الشهيرة وهي ركزت أيضا الاهتمام بسبب المخاوف الأمنية التي تمخضت عن التهديدات التي أطلقتها مجموعات تكفيرية ضدها على خلفية موجه الإرهاب التي ضربتها في كانون الثاني وتشرين الثاني الماضيين.
تذكّر احتجاجات العمال في فرنسا بأحداث انتفاضة أيار 1968 في مرحلة تاريخية عابرة علا فيها صوت الشباب الثائر ضد القيود التي تكبله فحطمها، بل كانت محطة مهمة وانتفاضة غيرت وجه البلد تماما ولا تزال آثارها وتداعياتها ممتدة إلى اليوم، والدليل ما صرح به الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي في بداية عهده عندما قال إن من أهدافه القضاء على ميراث حركة أيار 1968، لأنه - وكما كل اليمين في فرنسا – يعتبر أن تلك الحركة شكلت تهديدا للسلطة شوه المعايير السلوكية لدى المواطنين ودفعهم إلى الاستخفاف بقيمة العمل في الوقت الذي يراه فيه خصومهم النقطة التي سمحت بالتأسيس لفرنسا جديدة عنوانها الحرية والعدالة الإجتماعية.
ومن نتائج تلك الإنتفاضة الطلابية جاءت احتجاجات العمال الفرنسيين ضد إصلاح قانون العمل في فرنسا، ليتحول النزاع إلى مواجهة بين النقابات العمالية على رأسها الاتحاد العام للعمل ( CGT) وحكومة مانويل فالس الاشتراكية. وهذا الإصلاح قد يكون الأخير بالنسبة للإشتراكيين برئاسة فرانسوا هولاند قبل الانتخابات الرئاسية المقررة في أيار 2017 والتي ترجح استطلاعات الرأي فيها خسارة اليسار في حال ترشيح الرئيس المنتهية ولايته.
إضافة إلى ذلك، تتشكّل في فرنسا حالياً حركةٌ جديدة ضدّ إلغاء الضوابط التنظيمية على سوق العمل. اجتاحت الموجة أرجاء البلاد منذ شباط الماضي حين أعلنت حكومة الحزب الاشتراكي برئاسة هولاند وفالس مقترح إصلاح قانون العمل الفرنسي، وفي التاسع من آذار الماضي، ساهم خمس مئة ألف شخصٍ في يوم تظاهرٍ وطني؛ وانضمّ لاحقاً مليون ومائتا ألف شخصٍ إلى احتجاجات النقابات الحرفية في الواحد والثلاثين من آذار؛ وفي التاسع من نيسان، خرج عشرات الآلاف في مسيراتٍ في باريس وغيرها من المدن الفرنسية ضدّ القانون الجديد.
أحد أكثر النواحي إبهاراً في الحركة الجديدة هو العدد الضخم للمدن والقرى التي نُظِّمت فيها التظاهرات: أكثر من 250 مدينة وقرية في الواحد والثلاثين من آذار فحسب، حيث تجمع الآلاف في ساحة الجمهورية في باريس بالرغم من الأحوال الجوية، في أول احتلالات حركة "نوي ديبو" (Nuit Debout)، أو "المستيقظون طوال الليل".
على وقع هذه الاحتجاجات اهتز مشهد فرنسا السياسي والاجتماعي التي وقعت تحت ضغط حركات نقابية تميل يوماً بعض يوم إلى التطرّف في مواقفها وأساليب تعبيرها وذلك لتحقيق هدف واحد وهو إرغام الحكومة على التخلي عن قانون العمل الجديد. وهي احتجاجات استولت على الشارع الفرنسي أسابيع طويلة... حاولت أن تشل حركته الإقتصادية وتسببت في انزعاج كبير للمواطن الفرنسي كما تظهر ذلك التعقيدات في قطاع النقل وفي عملية جمع النفايات.
وقبل عشرة أشهر من الانتخابات الرئاسية، يبدو الرئيس هولاند في مأزق حقيقي أمام هذا التصعيد غير المسبوق على المستوى النقابي والحزبي والشعبي، فهذه الأزمة تعد واحدة من أكبر الأزمات الاجتماعية التي شهدتها البلاد والتي تبدو معها كل المخارج مغلقة بین حكومة تتمسك برفضها سحب قانون العمل الجدید أو تعدیله جذریا ونقابات مصممة على رفض القانون وتهدد بشل البلاد.
والمؤكد في كل ذلك أن هذه الأزمة ستؤثر بقوة على فرص ترشح الرئيس هولاند في الانتخابات الرئاسية المقبلة، حيث إنها ساهمت في ضعف موقفه واهتزاز مصداقيته أمام ناخبيه في ظل تزايد معدلات البطالة وتراجع مؤشرات الإقتصاد وهو ما سيجعل فرص ترشحه ضئيلة في انتخابات عام 2017.
والواقع إن أحداث العنف التى تشهدها فرنسا تداعت لها الساحة السياسية بكل انتماءاتها من حكومة وأحزاب، وجعلتهم يخرجون عن صمت الأموات الذي اصابهم لعقود طويلة تجاهلوا فيها التداعيات السلبية لاستخدام حرية التعبير والتظاهر المستمر الذي لايمثل ضغطا على الحكومة فحسب وإنما أيضا على المواطنين نظراً لتعطيل مصالحهم والاعتداء بصورة غير مباشرة على حريتهم.
والجدير بالذكر أن مجموعة من المحتجين على تعديل قانون العمل قد اتخذت من ميدان الجمهورية "الروبيبليك" مقرا لتجمعاتها رافعة لافتات مناهضة للدولة او كلمة "لا" كناية عن الرفض للقانون. وذلك منذ شهر تقريبا كمبادرة اعتصام مستمر.
وقد سبق لتظاهرات متعددة ان أطاحت بالكثير من التعديلات على القوانين التى أرادت الدولة تمريرها بزعم الإصلاح ومواكبة العصر. وفي نظرة تحليلية للأوضاع نلمح أن الحكومة الفرنسية تعاني حالاً من فقدان الاتزان وخلط شديد بين الواجب والحقوق وهي اليوم تحصد ثمار امتعاض الأجيال من ضياع حقوقها، ويؤكد ستيفان غاريلي من المعهد الدولي للتطوير الإداري في جنيف أن الفرنسيين "ضاقوا ذرعا بالوضع الإقتصادي حيث لاشيء يسير على ما يرام"، وقد حذر وزير الإقتصاد أرنو مونتبور لدى مغادرته الحكومة من عواقب إجراءات "التقشف".
وقال "إنها تمس أفراد الطبقات الشعبية والمتوسطة (..) وتدفعهم إلى رفض قادتهم السياسيين والبناء الأوروبي وترمي بهم إلى أحضان الأحزاب المتطرفة المدمرة لجمهوريتنا"، ولذلك أكدت الحكومة رفضها تقديم تنازلات حول إصلاح قانون العمل. وقال رئيسها، مانويل فالس، إن "التراجع سيكون خطأ سياسيا"، ونقلت عنه مصادر مقربة منه قوله: "إذا تخلينا عن المشروع أو رضخنا للضغوط سنبعث رسالة مفادها أن التعطيل يأتي بنتائج في النهاية".
وكان الرئيس الفرنسي، فرنسوا هولاند، قد أكد، أنه "لن يتم سحب المشروع"، غير أن ساركوزي، انتقد ما وصفه بـ"الفوضى" السائدة في فرنسا، و"ضعف وجبن وفقدان الحكومة التام لسلطتها" في مقابلة لأسبوعية "فالور أكتوييل"، وقال: "أظهرت الحكومة موقفا ضعيفا اليوم أمام الشارع. ما نشهده اليوم مهزلة".
احتجاجات اجتماعية صاخبة وتهديدات إرهابية بالتزامن مع انعقاد كأس الأمم الأوروبية جعلت فرنسا من جديد مركز اهتمام دولي تصدر إلى العالم صورة بلد تحت ضغط اجتماعي وأمني، يرفض عملية الإصلاح التي تقترحها عليه القيادة الإشتراكية بالتزامن من الاستعدادات لصد مختلف الأخطار الأمنية التي تهدد استقراره وتلاحمه ولعل النتيجة التي ستفضي إليها هذه الحقبة الفرنسية ستكون لها تداعيات حتمية على المشهد السياسي والانتخابي الفرنسي على بعد أشهر معدودة من الانتخابات الرئاسية التي ينوي اليمين من خلالها العودة إلى سدة الحكم.