شبهها البعض بالاحتجاجات الطالبية في أيار 1968
رقصة "فالس" فرنسية.. التوازن الصعب
ليس تفصيلاً أن تعطي الحكومة الفرنسية الإشارة بسحب الوقود من المخزون الاحتياطي الاستراتيجي لحل مشكلة التزوّد بالبنزين مع اتساع حركة الاحتجاج على تعديل قانون العمل لتشمل بعض المصافي والمرافئ النفطية، وهو نزاع أخذ شكل المواجهة بين الحكومة الاشتراكية والاتحاد العام للعمل (سي جي تي)، المقرب تاريخياً من اليسار وأكبر نقابة عمالية في فرنسا.
إهتزاز حكومي
وسط مناخ التوتر الذي يشبّهه البعض بأجواء الاحتجاجات الطالبية التي شهدتها فرنسا في أيار عام 1968، نشأت حركة احتجاج غير مسبوقة سميت "الليل وقوفاً" يشارك فيها منذ 31 آذار مواطنون فرنسيون في ساحة الجمهورية، للمطالبة بسحب تعديل قانون العمل والبحث عن نموذج اجتماعي بديل.
ولخصت صحيفة "لوموند" الوضع موضحة أن "العلاقة انقطعت بين الفرنسيين (...) وتبدو إعادتها في غضون أشهر قليلة مهمة عبثية"، وهو يضع الحكومة الفرنسية في مأزق حقيقي، بل ويعقد محاولاتها الإصلاحية لإنعاش الإقتصاد والحد من البطالة التى بلغت مستويات قياسية فى الأشهر الأخيرة، بعد عزمها على إجراء تعديلات على قانون العمل الذي تكفلت بالدفاع عنه كل من وزيرة العمل من أصل مغربى مريم الخمرى، التى حمل المشروع اسمها، ووزير الاقتصاد إيمانويل ماكرو.
لكن مهمة إقناع النقابات الفرنسية ومعها الفرنسيين، بدت منذ الإعلان عن مضامين هذا المشروع صعبة للغاية. وقال وزير الإقتصاد ماكرو فى حوار مع صحيفة "لوجورنال دى ديمونش"، إن الهدف من المشروع تمكين المقاولات الفرنسية من الأدوات اللازمة، التى تجعلها قادرة على التعاطى مع الأزمات الإقتصادية المفترضة من دون أن يؤثر على وجودها.
وكانت منظمات شبابية قد دخلت على خط جبهة الرافضين للمشروع، مدعمة بذلك موقف التنظيمات النقابية، وعلى رأسها أكبر منظمة للطلاب في فرنسا ودخلت منظمات شبابية على خط جبهة الرافضين للمشروع، المعروفة بقربها من الحزب الاشتراكى، وأدى تراكم الإشكالات السياسية والإقتصادية إلى دخول الحزب الإشتراكي الحاكم فى مرحلة دقيقة قد تعصف بوحدته حسب الكثير من المراقبين، لظهور تيار رافض لسياسته فى ملفي الهجرة والإقتصاد، تزعمه فى بادئ الأمر وزيران غادرا الحكومة مع تشكيل نسختها الثانية هما أرنو مونبورج (وزير الإقتصاد) وبونوا هامون (وزير التربية)، فيما ظهرت اليوم في الصورة زعيمة الحزب السابقة مارتين أوبري التى خسرت فى تشرين الأول 2011 الانتخابات التمهيدية للحزب أمام الرئيس فرانسوا هولاند.
نقاط الخلاف في المشروع
تهدف الإصلاحات محل الجدل في الأساس إلى السيطرة على معدلات البطالة التي تقترب من ال 10 % منذ ما يزيد عن عقد من الزمان، والتي ترتفع في الفئة العمرية 18: 25 إلى 24 % وذلك من طريق تخفيف القواعد المتعلقة المنظِمة لتشغيل الفرنسيين، وقد شمل ذلك السماح بتجاوز عدد ساعات العمل الأسبوعية لحاجز الـ 35 ساعة، إضافة إلى الحد من القيود المفروضة على الهيئات والشركات في حال رغبتها في الاستغناء عن بعض عامليها في أوقات الأزمات الإقتصادية، كما أنه يضعف من سلطات الاتحادات العمالية في الإشراف على بيئة العمل.
وتتلخص نقاط الخلاف بالتالي:
1- الطرد التعسفى
ينص مشروع القانون الجديد على تحديد سقف التعويضات التي تصرف للعامل فى حال تسريحه، وهو ما ترفضه النقابات جملة وتفصيلا، وترى أنه يعارض عمل القضاء المفروض فيه تحديد قيمة التعويض مقابل الأضرار التي تلحق بالعامل المسرح.
2- الطرد لأسباب إقتصادية
تسريح العمال فى حال الأزمات الإقتصادية، ويربطه المشروع بانهيار رأسمال المقاولات أو تراجع استثماراتها لبضعة أشهر. وترفض النقابات تسريح العمال لداعٍ من هذا القبيل إن كانوا يشتغلون في مقاولات فرعية لشركات كبرى تجني أرباحا من بقية فروعها فى إطار نوع من التضامن الإقتصادي بين مقاولات الشركة الواحدة.
3- تحديد ساعات العمل فى المقاولات الصغرى
المشروع يهدف إلى فتح المجال أمام المقاولات الصغرى التي لا يتجاوز عدد عمالها الخمسين لمناقشة إمكانية الرفع من ساعات العمل مع الأجراء على انفراد، إلا أن النقابات ترفض ذلك وترى أنها وسيلة لرفع ساعات العمل من دون مقابل.
4- الإتفاقات التنافسية
المشروع يقضي بفتح حوار بين إدارة المقاولة والنقابات لأجل التوصل إلى اتفاق لتعديل وقت العمل أو إعادة النظر في التعويضات في حال رغبت المقاولة في الرفع من إنتاجها لتلبية طلبات الزبائن. والعمال الذين يرفضون ذلك يكونون معرضين للطرد، وهو ما اعتبرته النقابات ابتزازا.
5- تعديل وقت العمل
ساعات العمل أسبوعيا يمكن أن تنتقل إلى 46 ساعة لمدة 16 أسبوعا، مقابل 12 أسبوعا في الوقت الحالي، لكن هذا لا يتم إلا باتفاق بين إدارة المقاولة والنقابات التي تمثل 50 بالمئة من العمال على الأقل، أو باستفتاء داخلي تدعو إليه نقابات تمثل 30 بالمئة من العمال.
الحكومة تُعدّل
ورغم استجابة الحكومة لطلب تعديل بعض البنود في الدعوة إلى استمرار الاحتجاجات، حتى أن فالس دعا "إلى انطلاقة جديدة لهذا النص"، وجاء كلامه خلال تقديمه نسخة معدلة لمشروع قانون العمل الجديد.
كما أزيلت من النسخة الجديدة ومن النص الفقرة المتعلقة بتحديد سقف للتعويضات التي يمكن للقضاء طلبها من رب العمل في حال التسريح التعسفي، وهو ما كانت كل النقابات قد رفضته. وقال فالس: "إن الخيار الذي نتخذه اليوم هو التمسك بجدول إرشادي فى القانون سيكون عونا للقضاة (...) وليس قيدا".
وبحسب استطلاع للرأي أنجزته مؤسسة "سوفريس" ونشرت نتائجه صحيفة "لوجورنال دوديمانش" فإن سبعة فرنسيين من أصل عشرة يؤيدون تراجع الحكومة عن قانون العمل، ما يعني أن الحكومة الفرنسية رغم حزمها اتجاه الحركة الإحتجاجية تبدو وكأنها فقدت معركة الرأي العام الفرنسي.
وفي الأثناء طالبت الصحافة الفرنسية بـ "الخروج" من "التعطيل" الذي تشهده فرنسا، واعتبرت صحف عدة أن الصراع بين رئيس الوزراء مانويل فالس والأمين العام لنقابة الكونفدرالية العامة للعمل فيليب مارتينيز لا يسهل الأمور. وكتبت صحيفة "لو ميدي" الإقليمية: "على مارتينيز أن يخرج منتصراً وعلى فالس أن يخرج غير مهزوم. توازن صعب".
وفي السياق نفسه كتبت صحيفة "لا نوفيل ريبوبليك
التي تصدر في وسط غرب البلاد أن فرنسا "معطلة تنتظر وتعاني".
قبل أيام من انطلاق بطولة رياضية دولية مهمة ستقام على الأراضي الفرنسية، ينظر الجيران الأوروبيون إلى فرنسا بقلق في ظل عدم قدرة الحكومة على قبول إجراء تعديلات على قانون العمل المثير للجدل.
كأس أوروبا أنطلق وأجواء التوتر لا تزال ترتسم في فرنسا من دون مخرج سريع للأزمة وفي هذا السياق، يقول "برنار جارجيولو" أحد موظفي السكك الحديدية: وجود كأس أوروبا أو عدم وجوده… سنستمر في الإضراب.
لا شك أن الحكومة الفرنسية تسعى إلى إحكام السيطرة الأمنية، بالتزامن مع تزايد القلق بشأن الأمن في أوروبا منذ هجمات باريس التي وقعت في 13 نوفمبر الماضي وأسفرت عن مقتل 130 شخصا بالإضافة إلى هجمات بروكسل يوم 22 آذار وأسفرت عن مقتل 32 شخصا.