كيف ستواجه هيمنة التكتلات الاقتصادية العالمية
الصناعة العربية والعولمة
يرى البعض أن العولمة هي الظاهرة التاريخية لنهاية القرن العشرين أو لبداية القرن الحادي والعشرين، مثلما كانت القومية في الاقتصاد والسياسة وفي الظاهرة المميزة لنهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ، ولكن ما يميزها الآن هو:
ـ كثافة المبادلات بين البلدان والمناطق وسرعة الانتشار.
ـ بروز قطاع التمويل والعمليات المالية والمعلوماتية، وكذلك الأسواق.
المتحكمون في ظاهرة العولمة:
إن الدول الصناعية الكبرى هي التي تتحكم برؤوس الأموال واستثماراتها، وهي التي تعود لها في الواقع ملكية الشركات المتعددة الجنسية. ولئن كانت هناك بعض الأموال من خارج هذه الدول فإن من يديرها فعلاً هي الدول الكبرى.
ووفق قائمتي «رايت هاوس سيرفي» و«فورتشن» 1997 ، هناك 500 شركة (أكبر شركات العالم) متعددة الجنسية أغلبها موزع بين 153 في أمريكا، و155 في الاتحاد الأوروبي، و141 في اليابان.
ونتيجة لذلك، بدأت الشركات الكوكبية تفرض وجهة نظرها في التعامل مع الدول النامية، لدرجة أن المصالح العليا للدولة، بتعبيرها السياسي، بدأت تتراجع أمام المصالح الاقتصادية للشركات الكوكبية (التنازل عن جزء من السيادة الوطنية. وهكذا انقلبت المعادلة : ففي الأصل كان النفوذ الاقتصادي والسياسي لدولة معينة هو مفتاح إلى أسواقها بما يحقق الأرباح للشركات التي تحمل جنسية تلك الدولة. أما الآن فإن الشركات الكوكبية هي التي تحكم أوضاع كل دولة وتزن احتمالات وحجم الأرباح التي تتحقق للشركات التي تمد نشاطها إليها.
العولمة والتصنيع
في مجال الصناعة، يتجلى طابع العولمة بشكل واضح ودقيق في تطورها، وفي أنماط الانتاج خلال العقود الأخيرة، بفضل الموجات المتلاحقة من الاختراعات العلمية والاستخدامات التكنولوجية والتقدم السريع والدائب في مجال البحث والتنمية.
فقد ضاعفت هذه الانجازات والتطورات الهائلة من القدرات البشرية وقوى الإنتاج، وأتاحت الفرصة بالدرجة الأولى للشركات متعددة الجنسية لأن تقطف ثمارها وتسخرها في مشاريع عملاقة تغطي دولاً وقارات.
وفي ظل هذه الظاهرة فإن التطور الدائب في عملية التصنيع أفضى إلى عولمة أسواق السلع والخدمات والتكنولوجيا والمال ومراكز الانتاج وكذلك العمالة الماهرة. كما قادت هذه الظاهرة إلى تعميق التقسيم العالمي للعمل على أساس مزيد من التخصص والميزات النسبية، وتوسيع الارتباطات والتحالفات عبر الحدود الوطنية، وإقامة أنظمة كونية للمعلومات والاتصالات.
وهذه العولمة، وما ارتبط بها ونجم عنها من تأثيرات، وضعت البلدان النامية أمام تحد كبير، وأبرزت من جديد أهمية البحث في خيارات التصنيع بهدف استمرار النمو ومشاريع البناء الوطني في مواجهة المنافسة الحادة الشاملة التي تلف العالم. وإزاء ذلك يبرز خيارات خياران أساسيان أمام البلدان النامية:
ـ الخيار الأول: هو الانصياع والتلاؤم مع متطلبات القوى الاقتصادية المهيمنة (الشركات متعددة الجنسيات)، والانخراط في مشاريع التبعية الكاملة لها. وهي سياسة غير حميدة وتعود بالضرر على مصالح البلدان النامية.
ـ الخيار الثاني: قوامه الاعتماد على عناصر القوة والميزات النسبية واختيار التكنولوجيا الملائمة لموارد البلد وحاجاته أو لمجموعة بلدان (كالبدان العربية).
العولمة إذن حقيقة اقتصادية لا تملك البلدان النامية إنكارها ولا رفضها بل محكوم عليها أن تقر بها وتتهيأ للانخراط فيها من موقع الفعل والمشاركة وإلا دفعتها آليات الإقصاء إلى مزيد من التأخر والتخلف. فما هو موقع العالم العربي اليوم؟ وهل من سبيل أمامه لدفع هذه التحديات خاصة في مجال التكنولوجيا والصناعة كركيزتين من أهم مقومات وركائز التنمية والتقدم؟
إن الصناعة العربية التي نمت وترعرعت بقصد إخراج الاقتصاد العربي من دوره التقليدي مصدراً لمواد أولية ومستورداً لسلع نهائية، لم تستطع، بعد أكثر من خمسة عقود، أن تتوصل في نهاية المطاف إلى كسر هذا الوضع أو التقليل منه، بل بالعكس أدت إلى تفاقمه وزيادته. فالصناعة التي أقيمت بغرض دعم الاستقلال الاقتصادي واستهدفت الوفاء بالحاجات المحلية بدلاً من استيرادها، والتي كان يفترض أن تكون عاملاً إيجابياً في تحسين ميزان المدفوعات عن طريق تنوع القاعدة وتوسيعها وتدعيم الاكتفاء الذاتي، أصبحت من أهم النشاطات التي تلتهم القطع الأجنبي. إذ لجأت إلى العلم الخارجي ليس فقط لتستورد منه أهم استثماراتها من آلات ومعدات رئيسية، بل أيضاً دراساته الأولية والسلع نصف المصنعة وقطع الغبار، مع أنه كان بالإمكان تصنيع عدد منها محلياً. وبدلاً من دعمها للاستقلال الاقتصادي عملت على تكريس التبعية نحو الخارج، وبالتالي تكريس صناعة قاصرة عن قيادة الحركة التنموية. وقد انتهت هذه الصناعة، إلى أن تصبح قطرية عملت أساساً، ولا تزال، للسوق المحلية الضيقة، ولم تعمل للتصدير ودخول المزاحمة الدولية والتخصص في إنتاج يستطيع أن يجابه المزاحمة الدولية في الغالب الأعم. يضاف إلى ذلك، إنها صناعة لا تزال مستمرة في إنتاج السلع الاستهلاكية التركيبية والنصف مصنعة بدلاً من السلع الرأسمالية المصنعة. ولم تستطع تأمين الاستهلاك الكامل من السلع الأساسية للمستهلك العربي، ولا تزال غير قادرة على استجلاب واستيعاب وتطويع التقانة الحديثة والاستفادة منها الاستفادة الايجابية المرتجاة.
أما في مجال التبادل التجاري فيعزو المحللون الاقتصاديون ضعف التبادل التجاري بين الأقطار العربية إلى عدة عوامل هيكلية أهمها: ضعف مستوى التصنيع، التخلف الفني، السياسات الحمائية الجمركية وغير الجمركية، ضعف مستوى المنافسة وضيق الأسواق المحلية، تشابه الإنتاج وضعف التنوع في الصادرات، اختلال ميزاني التجارة والمدفوعات، ضعف القطاع، تخلف البنية التحتية في ميدان النقل والمواصلات، اختلاف السياسات الاقتصادية العامة.
فهل من سبيل لرفع ومواجهة مجمل هذه التحديات التي ينتمي أكثرها إلى «جذر التنمية الصناعية» في ظروف تحرير التجارة واشتداد المنافسة، قبل أن ننتقل إلى قضية التنمية الصناعية ومستقبل الصناعة العربية؟
يجيب الكثيرون على هذا التساؤل: بأنه يبدو جلياً أن تشكيل الخارطة الاقتصادية الدولية في اتحادات جهوية عملاقة، تجيزها وتتيحها اتفاقية منظمة التجارة العالمية WTO، لا يترك للدول العربية سوى الانخراط في حركة التجارة العالمية من موقع المنافسة الفاعلة وخاصة في مجال النشاط الصناعي.
صعوبات الصناعة العربية
انتقل العالم الصناعي مع نهايات القرن العشرين إلى ما يسمى اصطلاحاً (ما بعد الصناعي)، أي المجتمع المتطور التقانات الإلكترونية والمعلوماتية والنظم المرتبطة بها. بينما لا يزال الوطن العربي في بداية المجتمع الصناعي. ومن أجل ردم الفجوة أو حرق المراحل، تبرز أمام العالم العربي خيارات عدة. إذ يمكنه من حيث المبدأ أن يختار إستراتيجية صناعية وتقانية تتخلص في استكمال ثورته الصناعية بصرف النظر عن الثورة العلمية في مجتمع (ما بعد الصناعي). لكن تبني خيار كهذا هو غير واقعي نظراً إلى اندماج الوطن العربي اقتصادياً (إنتاجاً واستهلاكاً) في الاقتصاد العالمي، وتبعيته لنمط الاستهلاك الغربي المادي عموماً.
وثمة خيار ثان وهو أخذ العالم العربي بإستراتيجية علمية وتقانية تقوم على حرق المراحل والقفز مباشرة إلى مرحلة المجتمع (ما بعد الصناعي)، القائم تحديداً على التقانات الجديدة الإلكترونية والمعلوماتية وتقانات المواد الجديدة ومصادر الطاقة الحديثة، والتقانة الحيوية. إلا أن مثل هذا الخيار يبدو مستبعداً في الظروف الراهنة على الأقل. وتظهر المفارقة واضحة بين ضعف التقانة وتخلفها وتبعيتها الخارجية في البنية الصناعية العربية من جهة، والتغذية الذاتية للتطور التقاني الانفجاري في البنية الصناعية العلمية من جهة أخرى.
أما الخيار الثالث، فيقودنا في الواقع إلى البحث عن خيار آخر يقفز فوق سلبيات الخيارين السابقين. مع الافتراض أساساً وقبل كل شيء أن أي حديث عن البدائل لا بد وأن ينطلق من افتراض وجود سياسة عربية واحدة في مجال اعتماد إستراتيجية عربية للتنمية الصناعية في مواجهة العولمة الاقتصادية واحتمالاتها. إذ أنه بدون هذا الافتراض فلا مجال ولا داع على الإطلاق للحديث عن هذا المستقبل. ويكون ذلك ضمن منظومة عربية قومية للعلوم والتقانة تستوجب مصلحة العرب جميعاً إحداثها فوراً لدعم القدرة العربية على مواجهة العولمة وعالم التكتلات العملاقة. وبالتالي فإن إستراتيجية التصنيع المنشودة في ظل العولمة وآثارها لا بد وأن تستهدف رفع القدرة التنافسية للصادرات الصناعيو إلى الأسواق الإقليمية والدولية من خلال استخدام فاعل للتكنولوجيا الملائمة، وتقليص كلفة الإنتاج، وذلك ببناء المؤسسات والقدرات العربية الكفيلة بتوفير المهارات اللازمة لاستيعاب التكنولوجيا وتكييفها بحسب حاجات الإنتاج ومتطلبات المنافسة في الأسواق الخارجية. ويستدعي ذلك أن تبادر الدول العربية إلى إقامة تكتل اقتصادي جهوي يكون أصلب عوداً في مواجهة شروط والزامات العولمة، وفي التعامل مع هيمنة التكتلات الاقتصادية العالمية شريطة أن يقترن ذلك باعتماد جملة أهداف إستراتيجية عربية، والعمل على توفيق الأوضاع القطري على أساسها، وأيضاً شريطة أن تتوفر الإدارة السياسية أولاً أخيراً.
عموماً فإن أهم ما ينبغي أن تسعى الصناعة العربية إلى إحرازه في سعيها لتطوير ذاتها وبناء وتجديد قاعدة العلوم والتقانة التي تستند إليها، يتخلص في: التحول من النقل الشامل إلى النقل الانتقائي مع توفير الإمكانات للتنفيذ المحلي، وبناء إمكانات تساهم في توفير المدخلات التقانية المطلوبة لمشاريع التوسع والتحديث في الصناعة العربية، والسعي التدريجي نحو السيطرة على اختيار مصادر معدات الإنتاج وإحراز إمكانات مكاملتها.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن مقولة: أن الدول الصناعية والشركات المتعددة الجنسيات ـ خلافاً لما يذهب إليه البعض ـ لا ترغب ضمناً في أحداث نقل حقيقي للتقانة إلى الدول النامية، قد طرحت في بعض الأحيان على نحو غلبت المبالغة. إذ من الممكن، من جهة أولى، أن تستمر الدول والجهات الموردة المعارف العلمية والتقانية في حيازة مركز متفوق على الرغم من نقلها تقانات معينة، بل قد يعد نقلها لتلك التقانات أحد الأسباب الرئيسية في احتفاظها بمثل هذا المركز. ومن جهة ثانية، فإن الارتقاء التقاني المتدرج للدول النامية يشكل أحد دعائم اقتصاد السوق الذي تعمل ضمنه معظم الجهات المولدة والمسوقة للتقانة.
وأخيراً، فإن اعتماد النظرة الدينامية في تحديد علاقة العالم العربي التكنولوجية بالعلم يقودنا إلى الملاحظة بأن مستقبل هذه العلاقة لن يكون استمراراً لحاضرنا الراهن.