الأزمة المالية العالمية عام 2008 وضعتها في عجلة الاصلاح
مؤسسات التمويل الدولية.. احتكار أميركي وغربي
منذ نهاية أربعينيات القرن الماضي والبنك والصندوق الدوليين يمثلان موضع اتهام من قبل الدول النامية لكونهما ينحازان للدول المتقدمة سواء من حيث السياسات والبرامج أو من خلال الإدارة وطريقة التصويت داخل المجالس العليا بالمؤسستين.
ولم تنس الدول النامية والصاعدة الأجندات التي فرضت عليها من قبل البنك والصندوق الدوليين في نهاية الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن الماضي لكي تخرج من كبوة أزمة مديونياتها الخارجية، وهو ما كبدها تطبيق برامج أطلق عليها "برامج الإصلاح الاقتصادي" وكان لها تداعيات اقتصادية واجتماعية بالغة الأثر في واقع اقتصاديات الدول النامية والصاعدة.
إلا أن الأزمة المالية العالمية في عام 2008 جعلت المطالبة بإصلاح هاتين المؤسستين أمرا ضروريا، خاصة بعد أن تمت زيادة رأس المال بالمؤسستين، وكان المصدر الرئيسي لهذه الزيادة من نصيب الدول النامية والصاعدة، وهو ما أدى إلى إجراء تعديلات في القوة التصويتية داخل مؤسسات اتخاذ القرار، وخاصة ما يتعلق باختيار رئيس البنك أو الصندوق الدوليين، حيث بلغت القوة التصويتية للدول النامية والصاعدة نحو 47.2%، مقابل 52.8% لأميركا والغرب.
ومع ذلك لم تأت انتخابات رئيس البنك الدولي منذ أيام خارج منظومة احتكار أميركا لمنصب رئيس البنك الدولي، حيث فاز بهذا المنصب كيم يونغ كيم وهو مواطن أميركي هاجر من كوريا الجنوبية في طفولته.
وبذلك يكون كيم الرئيس الثاني عشر للبنك الدولي، وهو المنصب الذي لم يشغله إلا مواطن أميركي على مدار أكثر من سبعين عاما.
ولم يختلف الأمر في العام الماضي عند اختيار رئيس صندوق النقد الدولي في يوليو/تموز 2011، والذي فازت به كريستين لاغارد المواطنة الفرنسية، ليتجسد الاحتكار الأوروبي لهذا المنصب أيضا.
وكانت الدول النامية تأمل في أن تتغير آلية اختيار الرئيس بهاتين المؤسستين، وبخاصة أن الدول النامية قدمت شخصيات تتمتع بالخبرة العلمية والعمل داخل المؤسستين، وأن الاقتصاد العالمي بعد الأزمة المالية العالمية شهد مساهمة واضحة من قبل الدول الصاعدة من حيث معدلات النمو ونصيبها من الناتج المحلي العالمي.
لكن من الواضح أن جهود الدول النامية والصاعدة ما زالت ضعيفة في مواجهة التكتل الأميركي الأوروبي. فلم تسفر اجتماعات مجموعة البريكس -التي تضم البرازيل وروسيا والصين والهند وجنوب أفريقيا- عن تضافر جهودها لدعم مرشحة دول الاتحاد الأفريقي، وهي وزيرة المالية السابقة في نيجيريا، والتي تجمع بين الخبرة العلمية والعملية، وكونها ممثلة لدولة نامية.
طبيعة اختيار رؤساء المؤسستين الدوليتين تأتي من خلال مجلس المديرين التنفيذيين بكل منهما. حيث تضم كل مؤسسة 187 دولة كأعضاء، ولكن التصويت لا يكون لمجرد أن الدولة عضو بالبنك أو الصندوق ولكن من خلال نصيب الدولة في رأسمال البنك أو الصندوق.
وفي كلا المؤسستين يوجد مجلس للمديرين التنفيذيين يضم 24 عضوا، منها عضويات دائمة لكل من أميركا وفرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة واليابان، وباقي مقاعد العضوية للمديرين التنفيذيين موزعة إقليميا وحسب المقدرة المالية لكل دولة.
وتمتلك الدول الخمس الدائمة العضوية بمجلس المديرين التنفيذيين بكل من البنك والصندوق قوة تصويتية تزيد عن 50%، وبالتالي يمكنها المجيء بمن تريد. وثمة عرف عالمي دائم على أن تصوت أميركا لصالح المرشح الأوروبي برئاسة صندوق النقد، وتصوت أوروبا لصالح المرشح الأميركي في رئاسة البنك الدولي.
وسوف يظل هذا الاحتكار الغربي الأميركي لمنصب الرئيس بكلا المؤسستين إلى أن يتم تغيير آلية التصويت في مجلس المديرين التنفيذيين، أو أن يكون التصويت على أساس العضوية وليس حسب مساهمة الدولة في رأسمال المؤسسة.
وليس من السهل أن تفرط أميركا والغرب في قيادة البنك والصندوق الدوليين، فهما الجزرة والعصا اللتان تم استخدامهما خلال الفترات الماضية بإتقان في ترويض بلدان نامية، في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، نظير تنفيذ أجندات أميركية وغربية على الصعيد السياسي.
الدليل بلدان الحراك
ولعل المشهد في بلدان ما يسمى بـ "الربيع العربي" خير دليل، فقد تواجدت بعثات البنك والصندوق الدوليين منذ اللحظات الأولى لسقوط النظم الدكتاتورية في تونس ومصر والمغرب واليمن، وتم الحديث عن ضرورة دخول هذه البلدان في مفاوضات للحصول على قروض لسد فجوات تمويلية، وإن كانت المؤشرات الاقتصادية تدل على أن الأمر يستلزم إعادة ترتيب الأوضاع المالية، وإجراء إصلاحات مالية حقيقية ومواجهة جادة للفساد، وبهما تنتهي الحاجة إلى الاقتراض الخارجي.
وربما يكون توجه المؤسستين في هذا الشأن هو من قبيل أن تظل دول الربيع العربي في فلك الاقتصاد الغربي، وعدم تبني نماذج للتنمية تعتمد على الذاتية أو تتمتع بالاستقلال.
واللافت للنظر والمثير للدهشة أن صندوق النقد الدولي أعلن غير مرة بالقاهرة -عبر ممثلي بعثته - أنه سوف يقدم القرض لمصر دون أية شروط، وأن البرنامج سوف يكون من تصميم الحكومة المصرية، وأن دور الصندوق سوف يقتصر على وجود فريق للدعم الفني فقط في إعداد البرنامج، وهي لغة لم تُعهد عن الصندوق مع أي من الدول الأخرى.
مبررات الاعتراض
من غير المعقول في ظل المناخ الديمقراطي الذي يتغنى به الغرب وأميركا ومطالبتهما الآخرين بالشفافية والمنافسة في إدارة كافة الشؤون الدولية والقطرية أن تأتي ممارساتهما عكس ما تناديان به، فكلاهما نظر للأمر من منظور سياسي بحت وبمنطق أن من يدفع يملك.
- تتمثل وجهة نظر الدول الصاعدة في أن القوة الاقتصادية عالميا في طريقها للانتقال من الغرب إلى الشرق، وبالتالي لا بد أن تعطى الدول الصاعدة الفرصة في قيادة هذه المؤسسات لتحقيق ما تراه في مصلحة الاقتصاد العالمي، وليس الدول الغربية فقط.
- يرى البعض أن المرشحة النيجيرية إيويالا التي شغلت منصب وزيرة المالية ببلدها خلال الفترة من 2003 إلى 2006 والتي دعمها الاتحاد الأفريقي، كانت أولى من الفائز الأميركي لخبرتها في البنك الدولي وكاقتصادية بارزة في بلدها، وبالتالي فهي أعرف بالمؤسسة وإدارتها بشكل أفضل. ومن هنا حسم المنصب النفوذ الأميركي مدعما بحلفاء أميركا، وهو ما يعني أن الخبرة لم تعتبر بعد في المرتبة الأولى في اختيار القيادات بالبنك والصندوق الدوليين.
خرجت الدول النامية والصاعدة خالية الوفاض من معركتها على رئاسة البنك والصندوق الدوليين، لكن هذا لا يعني نهاية المطاف. فالفترة القادمة ستشهد دورا أكبر لاقتصاديات الدول الصاعدة، كما أن أميركا والغرب لم يخرجا بعد من أزمتهما المالية، والتي قد تطول بعض الوقت وهو ما يعني دورا أكبر للدول الصاعدة التي تمتلك جزءا لا بأس به من الديون الأميركية وتمول جزءا كبيرا أيضا من عجز الموازنة الأميركية. ونفس الدور من المنتظر أن تقوم به الدول الصاعدة حيال أوروبا. ومن هنا سيكون الزمن جزءا من الرهان لحصول الدول الصاعدة والنامية على قيادة المؤسسات التمويلية الدولية.
ولا يقتصر الصراع فقط على قيادة هذه المؤسسات، ولكن الأهم من ذلك هو دور هذه المؤسسات في الفترة المقبلة للعمل من أجل القضاء على الفقر والبطالة وتحقيق التنمية، إذ لا تزال نسبة كبيرة من الدول النامية والأشد فقرا لم تحقق الجزء المطلوب في الأهداف الإنمائية للألفية الثالثة.
كما تجدر الإشارة إلى أن إرهاصات تغير الخريطة الاقتصادية للعالم ما زالت تسير بمعدلات بطيئة، وقد يكون هذا مقبولا في إطار البعد الزمني في التحولات الدولية. ولعل جهود مجموعة البريكس التي تبذلها في إطار التسويات التجارية عبر عملاتها المحلية، أو إعلانها عن عزمها بوجود بديل للبنك الدولي قد يساعد مستقبلا في التقليل من حجم الدور الذي تلعبه مؤسستا البنك والصندوق الدوليين في محيط الاقتصاد العالمي.
غياب عربي
ومن المناسب هنا أن نتطرق إلى غياب الوجود العربي في هذا المشهد العالمي. فعلى الرغم من التمويل السعودي السخي لصندوق النقد الدولي فإن موقف اختيار رئيس البنك أو الصندوق الدوليين لم يظهر فيه العرب من قريب أو بعيد.
وقد يكون من المستبعد أن نطرح سؤالا من قبيل: لم لا يكون للدول العربية مرشح في رئاسة البنك أو الصندوق الدوليين؟
فالدول العربية هي دول نامية في مجموعها، وقد تحظى بدعم أفريقي آسيوي، وبخاصة أن هناك خبرات عربية معروفة شغلت مراكز مرموقة في البنك أو الصندوق الدوليين.
ولكن القضية تكمن في أن هذه الخبرات تواجدت في هذه المؤسسات من خلال سعيها الشخصي، وليست مدفوعة بدعم من دولها.
ولا يتوقف الأمر على الخبرات أو رغبات الدول العربية، ولكنه يرجع إلى ضعف اقتصاديات الدول العربية، ومدى مساهمتها في الاقتصاد العالمي الذي يعد أحد محددات حصة الدول في التمويل، وبالتالي في القدرة التصويتية داخل البنك والصندوق الدوليين. ناهيك عن التبعية العربية لأميركا والغرب، وهو حجر العثرة الذي يقف دون أن تتحرك الرغبة العربية تجاه هذا الأمر.