"دافوس" يعيد تشكيل ملامح العالم:
لا عودة إلى الفورة الإقتصادية الماضية!؟
إجتمع ، في مجمع راق للتزلج في سويسرا، كبار قادة العالم ورجال الأعمال والمستثمرين، وآلاف الرؤساء التنفيذيين، والسياسيين، وقادة المنظمات غير الحكومية، والمجتمع الإعلامي، في احتفالية إقتصادية سنوية خلال انعقاد منتدى دافوس الإقتصادي. الذي عقد تحت شعار "إعادة تشكيل ملامح العالم: النتائج المتوقعة على المجتمع والسياسة والأعمال"، وهو شعار يجد نفسه غريباً إذا ما قورن بالشعارات الإقتصادية التقليدية الصرفة، التي صبغت المنتدى سابقاً، فإلى جانب المواضيع الإقتصادية والمالية المهمة، حازت قضايا أخرى على اهتمام المجتمعين مثل تغيّر المناخ وتأثير التكنولوجيا على الأعمال والبيئة.
وخلال المنتدى الذي استمر أربعة أيام ما بين 21 و25 كانون الثاني، تبادل ما يزيد على 2500 مشارك من قرابة 100 دولة، من بينهم أكثر من 1500 رجل أعمال وما يزيد على 40 رئيس دولة أو حكومة وجهات النظر حول الأساليب المحتملة لحل مشكلات مثل الانتعاش الإقتصادي العالمي بعد مرور خمس سنوات على الأزمة المالية، كما تبادلوا وجهات النظر حول الآفاق المالية المستقبلية، والطاقة الجديدة، والصحة، وتغيّر المناخ.
وقد هيمنت على دافوس هذه السنة هواجس تعزيز النمو الإقتصادي وخلق فرص عمل في الدول الصناعية، للخروج من الأزمة العالمية وتعزيز الإنتاج، وتوفير أسواق جديدة للشركات متعددة الجنسيات، كل ذلك يتطلب فرصاً جديدة للاستثمارات، وسياسات وتدابير تحفيزية تطاول الإقتصاد الكلي والهيكلية المالية في الدول النامية، وفيما كانت الأزمة المالية التي ضربت أوروبا وأثرت في قيمة اليورو، خفت حدة المحاذير من احتمالات انهيار العملة الأوروبية الموحدة في الجلسات المتعلقة بالسياسات المالية أثناء المنتدى مقابل ظهور تحذيرات مختلفة من تأثير ظاهرة البطالة بين الشباب في أوروبا، وفي جلسات نقاش مخصصة حول مستقبل أوروبا المالي، وكيفية استعادة عافيتها، اتفقت الآراء على أن منطقة اليورو قد تبقى لسنوات أو حتى عقود في مسار نمو إقتصادي بطيء وغير متجانس، ما سينعكس سلباً على جيل كامل من الشباب المحبطين أصلاً بسبب انتشار البطالة بينهم بل يمكن أيضاً، أن يصبح مصدراً لاضطرابات سياسية.
تفاؤل حذر
نظر الخبراء الإقتصاديون في منتدى دافوس، بتفاؤل مشوب بالحذر إلى توقعات نمو الإقتصاد للعام الحالي، إذ يتوقع أن تتخلل نهاية فترة برامج التحفيز الإقتصادية الطارئة التي يتبعها الإتحاد الأوروبي وعدد من دول العالم اليوم، الكثير من المطبات، صحيح أنه ربما تكون قد توارت أجواء الأزمة المالية وتراجع شبح الانهيار الذي سيطر على دافوس خلال الأعوام الثلاثة السابقة على المستويات كافة ، إلا أن هذا لا يعني مطلقاً العودة إلى أيام الفورة الإقتصادية الماضية، فهناك عالم جديد يتبلور اليوم ولا شك سيكون هناك أيضاً لاعبون جدد فيه مثل الصين واليابان وعدد من الدول الآسيوية النامية.
في هذا الإطار، حذر عدد من المشاركين في المنتدى، الحكومات من الشعور بالرضا والركون إلى الراحة بفعل حال التحسن النسبي الذي يشهده الإقتصاد العالمي أخيراً بشكل عام، خشية أن يتحول هذا الشعور إلى نوع من الثقة والاطمئنان الزائد تجاه الإصلاحات التي يرغب الجميع أن يراها للتأكد من وجود تعافٍ حقيقي ما زالت تحوم حوله الكثير من الشكوك، إذاً الرسالة واضحة: "لا مجال للاسترخاء" ويجب الاستمرار في تعزيز النمو ودفع عجلة الإقتصاد حتى التأكد من عبور خط الأزمة، ورغم أن مخاوف انهيار اليورو والإتحاد الأوروبي قد تراجعت، وبالرغم من أن الولايات المتحدة استطاعت تجنب الوقوع في المنزلق المالي الذي هدد بدفع أكبر اقتصاد في العالم نحو ركود جديد، إلا أنه ما زالت هناك مخاوف من أن تصيب الحكومات حال من الاسترخاء والرضا الزائد والتساهل تجاه إجراءاتها وخطواتها لتحسين النمو وخفض العجز والدين في ميزانياتها، والذي تطالب به العديد من المؤسسات الدولية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي.
تقديرات النمو
قدر نمو الإقتصاد العالمي بنحو 3.5 في المئة لهذا العام بشكل أفضل من سابقه الذي بلغ 3.2 في المئة، إلا أن هذا التحسن يشوبه الكثير من الخلل وعدم التوازن، فبينما منطقة اليورو واليابان ما زالتا تعيشان حالاً من الركود، شهدت الإقتصادات الناشئة مثل الصين نمواً متسارعاً على نحو ملحوظ، لكن مع ذلك، تخوف المستثمرون المشاركون في المنتدى من مؤشرات ضعف في قطاع الصناعة الضخم في الصين وبوادر أزمة في القطاع المصرفي وسط توقعات بأن يواصل الاحتياط الفيدرالي الأميركي، سياسة تحجيم الحوافز المالية التي من شأنها أن تترك تبعات سيئة على الإقتصاد الصيني وأن تعزز المنافسة الأميركية.
أما في العالم العربي، فكبيرة هي الفجوة التي تفصل بين القضايا الكبرى التي تهم العالم بشكل عام وبين قضاياه ومشاكله، وبدا واضحاً أن على العالم العربي أن يعمل على حل مشاكله بنفسه، وألا يتوقع كثيراً من العون أو المساعدة من الدول الكبرى، خصوصاً أن هذه الدول لديها ما تعانيه من مشكلات وأزمات داخلية وخارجية، فكان لافتاً رغم المشاركة العربية الكبيرة في المنتدى، غياب الاهتمام بالتنمية الإقتصادية في العالم العربي والشرق الأوسط، وتركز الاهتمام على الأزمة السورية، وعلى دول "الخريف العربي" وليس الربيع العربي كما اعتبر بعض المحللين في المنتدى، فضلاً عن الدور الذي تؤديه إيران في المنطقة، وتراجع دور تركيا في الفترة الأخيرة بسبب فضائح الفساد التي ضربتها، ورغم أن المسؤولين الأتراك الذين شاركوا في المنتدى حاولوا إعطاء صورة جيدة عن بلدهم، والتغاضي عن التأثير السلبي لتراجع الليرة التركية، إلا أن خفوت الدور التركي في دافوس كان لافتاً هذا العام.
تحذيرات ختام المنتدى
اختتم المنتدى الإقتصادي العالمي أعمال دورته الـ44 بمجموعة من التحذيرات أطلقها أكاديميون وخبراء إقتصاديون إلى صناع القرار الإقتصادي، سواء في الحكومات أو القطاع الخاص، كما أبدى العديد منهم آمالاً ضعيفة بانتعاش الإقتصاد العالمي بسبب مخاوف حول المخاطر الكبيرة التي لا تزال قائمة.
وتمحورت التحذيرات حول توعية المؤسسات الإقتصادية الخاصة بضرورة تحمل المسؤولية والمساهمة في حل المشاكل العالمية البيئية منها والإجتماعية ذات الصلة بالفقر وتحسين مستويات المعيشة، وصولاً إلى الحد اللائق للحياة لمواجهة التحديات التي يواجهها العالم بشكل عام.
وأكد المشاركون في المنتدى ضرورة اهتمام الشركات بالأهداف الإجتماعية السامية وعدم التركيز على الربح دون غيره، مشددين على ضرورة الاهتمام بالإنسانية التي قد تنهار في مواجهة تحديات هذا القرن.
وكان لافتاً هذا العام إهتمام دافوس بالشؤون الإجتماعية والإنسانية إلى حد كبير، فقد اعتبر المنتدى أن اتساع الفجوة المزمنة بين الأغنياء والفقراء هو ما يشكل أكبر تهديد للعالم في 2014 حتى مع بدء تعافي الإقتصادات في دول كثيرة، لافتاً إلى أن التفاوت في الدخل والاضطرابات الإجتماعية المصاحبة له هي المشكلة التي سيكون لها على الأرجح تأثير كبير على الإقتصاد العالمي في السنوات العشر المقبلة.
وحذر المنتدى من أن هناك جيلاً "ضائعاً" من الشباب يبدأ مشوار الحياة العملية في العقد الحالي يفتقر إلى الوظائف وفي بعض الأحيان إلى المهارات الملائمة للعمل وهو ما يؤجج إحباطاً مكبوتاً، وقد يتحول هذا الإحباط إلى اضطرابات إجتماعية كما شوهد بالفعل في موجة الاحتجاجات على التفاوت في الدخل والفساد في دول من تايلاند إلى البرازيل، فالسخط يمكن أن يؤدي إلى تفكك النسيج الإجتماعي، ولا سيما إذا شعر الشبان بأنه ليس لهم مستقبل.
أما التغير المناخي، والطقس الشديد السوء، فقد صُنفا من قبل المنتدى الإقتصادي، كثاني العوامل التي من المرجح أن تسبب صدمات للأنظمة المالية والإقتصادية.