هل تتحرر اليونان من فخاخ اليورو؟
منذ 2010 برزت إمكانية عجز اليونان عن دفع ديونها والخروج من الاتحاد الإقتصادي والنقدي الأوروبى (UEM). وما أسس لهذا الواقع المرير هو أن مشكلة اليونان هي في اقتصاده الضعيف الذي يتسم بثغرات مؤسسية كبيرة، وما زاد في أزمته أنه انضم إلى اتحاد نقدي مختلّ هيكلياً، واعتمد عملة (اليورو) ليست قوية فحسب، وإنما تحمل في ذاتها إشكالا.
إن وضعا كهذا لا يتيح إلا أحد حلين اثنين: فإما أن يصلح الاتحاد الإقتصادي والنقدي نفسه إصلاحا عميقا، وأما أن يطرح أمام اليونان خيار العجز عن الدفع والخروج من منطقة اليورو... فهل تخرج اليونان من منطقة اليورو؟ وما هي تداعيات هذا الخروج المؤلم؟ وهل كان خطأ إنضمام اليونان إلى منطقة اليورو؟
إن ما يشكوه "اليورو" من خلل يـُفسـَر قبل كل شيء بالسياسة الألمانية القائمة على الضغط على الأجور، وهو ما مكـّن برلين من زيادة قدرتها التنافسية، ومن أن تصبح واحدة من أهم الدول المقرضة في أوروبا. ولئن ترتّب عن هذه السياسة تقليص في الطلب الداخلي، فإن ألمانيا فعلت ذلك لجذب المزيد من الثروات من الخارج، وهي سياسة دفع الشعب ثمنها ولكنها راقت لكبار المصدّرين والمؤسسات المصرفية.
إن حكومة حزب "سيريزا" برئاسة أليكسيس تسيبراس، تدرك منذ زمن طويل آثار السياسات الأوروبية. وسعت، أثناء الأشهر التي أعقبت تسلـّمها السلطة، إلى العمل على وضع حـدّ لإجراءات التقشف، والتخفيف من الديـْن، ووضع برنامج استثمار كفيل بتحريك الإقتصاد. غير أنه من العسير أن نتصور جوابا أشـدّ قسوة من جواب الدائنين في حزيران، وهو أن على اليونان - في نظرهم - أن تحقق فائضا أوليا (2) بنسبة 1% من الناتج المحلي الإجمالى سنة 2015، وبنسبة 2% سنة 2016، وبنسبة 3% عام 2017، ثم بنسبة 3.75% في السنوات التالية، ولكن من دون أدنى إشارة إلى تخفيف الديون ولا إلى برنامج استثمار جـدّي، فالأمر يتعلق إذن، وفي إيجاز، بأشدّ ضروب التقشف، ولمدة طويلة.
وكانت هناك ثلاث نقاط أساسية تأرجحت عندها المفاوضات بين أثينا ومقرضيها وهي إصلاح نظام التقاعد ومعدل الضريبة على القيمة المضافة والتزام اليونان، أو عدم الالتزام بخفض الدين العام.
وفي هذا السياق، سيكون مستقبل اليونان قاتما. فقد تبلغ نسبة النمو في السنوات الخمس المقبلة 2%، مع تقلبات مهمة. ومن المحتمل أن تظل نسبة البطالة مرتفعة جدّا، من دون قدرة على تصور تحسن الدخول، التي تجاوز تدهورها نسبة 30%، لدى شرائح عريضة من المجتمع. إنه مجتمع متهرم، تسحقه وطأة الديون.
وإذا ما ألحّ الاتحاد الأوروبي على فرض سياساته، فإن بقاء البلاد يتوقّف على التوقف عن دفع ديونها وخروجها من الاتحاد الإقتصادي والنقدي، وهما الخطوتان الأوليان نحو إعادة تنشيط الجهاز الإنتاجي اليوناني، وإعادة الحركية للاستثمارات، والحياة لدولة الرفاه. عندها تتحرر اليونان من فخّ اليورو، وتنطلق في مسار تغيير إجتماعي، يتسم بالنمو الإقتصادي وإعادة توزيع الثروات.
الانسحاب من الاتحاد الإقتصادي والنقدي الأوروبى لن يكون حفلا يسرّ الناظرين، غير أن التاريخ والنظرية النقدية يمكنـّان من رسم الخطوط العريضة لاستراتيجية يمكن تلخيصها كالتالي:
1- تعلق أثينا، في مرحلة أولى، مشاركتها في الاتحاد الإقتصادي والنقدي، دون الرجوع عن انخراطها في الاتحاد الأوروبي.
2- تمتنع اليونان عن تسديد دينها العام للخارج، وهذا يعني أساسا صندوق النقد الدولي، والبنك المركزي الأوروبي. وقد يكون في وسع البلد أن يختار مواصلة الإيفاء بالتزاماته تجاه الدائنين من القطاع الخاص، بشكل يمكنه من تيسير عودته اللاحقة إلى الأسواق.
3- تستعيد اليونان رقابتها على مصرفها المركزي، الذي يغادر "المنظومة الأوروبية" من دون مغادرة المنظومة الأوروبية للمصارف المركزية. ويتم تأميم المنظومة البنكية، ويبدأ بعد ذلك إنشاء مؤسسات جديدة سليمة.
4- سيتم تخفيض قيمة "الدراخمة الجديدة"، وقد يكون التخفيض كبيرا، قبل أن يستقر بعد بضعة أشهر حول نسبة تخفيض بـ10 إلى 20% من قيمته الأوّلية (مع العلم بأن الحساب الجاري قد بلغ توازنه، وأن الدولة قد فرضت رقابة على الصرف).
لا ينكر أحد أن عجز اليونان عن دفع ديونها وخروجها من منطقة اليورو ستكون لهما كلفة إجتماعية باهظة، وخاصة في الفترة الأولى التي تعقب القرار. غير أن الأمر يتعلق بمحنة وقتية، لا تبرر قبول بلد بكامله التقشف بما يقتضيه البقاء ضمن الاتحاد الإقتصادي والنقدي الأوروبى.
ما من شك في أن هذه المرحلة ستؤدّي إلى الحدّ من القدرة الشرائية لأفراد الشعب، وذلك من خلال غلاء الواردات، ولكنها ستشـذّب بالمقدار نفسه من القيمة الحقيقية للقروض العقارية وسائر القروض. وستكون عودة النشاط الإقتصادي، بعد الصدمة الأولى، لمصلحة العمال، وذلك من خلال حماية فرص العمل وتيسير الزيادة التدريجية في الأجور. وستمكن سياسة الحكومة، فوق ذلك، من إعادة توزيع الدخل الوطني بشكل يحسـّن من وضع الناس الأشدّ فقرا، كما أن تنشيط السوق الداخلية سيكون في مصلحة المنشآت الإقتصادية الصغرى والمتوسطة.
اليونان اليوم عند مفترق طرق. إذ إن اقتصادها منهار، ومجتمعها يتألـّم، ومؤسساتها تشكو العرج، ووضعيتها الجيوسياسية لم تبلغ - منذ عقود - ما بلغته اليوم من سوء الحال. وفي قلب أوروبا التي تمرّ بأزمة، تتميـّز البلاد باتساع مدى الإعسار لدى نخبها. وتحتل القوى الإجتماعية، القادرة مستقبلا على إطلاق عجلة البلاد إلى الأمام، بإخراجها من فتورها، قاعدة الهرم الإجتماعي. إنها تدعم "سيريزا"، ومن الأساسي إذن، أن يستثمر الحزب هذه الفرصة التاريخية.
لقد تبين أن الانضمام إلى الاتحاد الإقتصادي والنقدي الأوروبى كان خطأ جسيما بالنسبة إلى اليونان. لكن البلد في وسعه دوما أن يتخذ طريقا مختلفة. وهو بذلك، يساعد أوروبا على أن تتخلـّص من نظام نقدي سامّ، غير قادر على العيش إلا بفضل الدعم الذي تقدمه القطاعات السياسية والإقتصادية المهيمنة. القارة الأوروبية تختنق ولابد لها من أن تثوب إلى رشدها. وكثيرا ما اضطلعت اليونان بدور تاريخي يتجاوز حجمها، ويبدو أنها اليوم أمام فرصة جديدة لذلك.