جيوبوليتيك الطاقة الروسية بين تركيا واليونان... والصين
مع تكرار حوادث قطع الغاز في أوروبا، يطفو على السطح من جديد الجدلُ حول مشروع نقل تركيا للغاز الروسي إلى أوروبا كجزء من خطط تعزيز أمن الطاقة الأوروبي. خصوصاً وأن أكثر من نصف واردات أوروبا سيتم نقلها عبر خطوط الغاز بحلول 2035.
وفي ضوء هذه التحولات، حققت موسكو تقدماً ملموساً في تنفيذ استراتيجيتها القاضية بالتخلص من اعتمادها على شبكة الخطوط الأوكرانية لنقل الغاز إلى أوروبا بحلول عام 2019، وواصلت جهودها الدبلوماسية لتذليل العقبات المتبقية لإيصال الغاز الروسي إلى أوروبا بطرق بديلة ووفقاً لآليات جديدة، وذلك عبر تركيا واليونان.
ففي حين أعلنت شركة «غازبروم» الروسية التوصل إلى اتفاق مع الجانب التركي يتضمن الإنتهاء من مد خط «السيل التركي» لنقل الغاز الروسي عبر قاع البحر الأسود في كانون الأول (ديسمبر) 2016، إضافة إلى تحديث شبكة «السيل الأزرق» التي تنقل حالياً معظم حاجات تركيا من الغاز الروسي، كان الرئيس الروسي فلادمير بوتين يناقش ورئيس وزراء اليونان أليكسيس تسيبراس مسألة بناء خط أنابيب نقل الغاز الروسي "السيل التركي" على الأراضي اليونانية ومنه إلى أوروبا، وأكد استعداد موسكو لتمويل الشركات اليونانية المشاركة في بناء خط الأنابيب.
هذا الحراك الروسي لنقل الغاز عبر تركيا واليونان أثار حفيظة واشنطن التي أعلنت عبر المبعوث الخاص لوزارة الخارجية الأميركية لشؤون الطاقة آموس خوكستاين صراحة عن رفض الولايات المتحدة تمرير أنبوب جديد بدلاً من "السيل الجنوبي" لتوريد الغاز الروسي إلى أوروبا. وقد ردت أثينا على الرفض الأميركي في تصريح لوزير الإصلاح الإنتاجي والبيئة والطاقة اليوناني بانويوتيس لافازانيس في حديث صحفي نشر في 10 أيار أكد فيه أن الحكومة اليونانية تؤيد من دون قيد أو شرط مشروع تمرير أنبوب لتوريد الغاز الروسي عبر الأراضي اليونانية، واتخذ الطرفان ويتخذان الخطوات الهادفة إلى تنفيذ هذا المشروع. وأضاف: "بالطبع، لا تريد الولايات المتحدة هذا الأنبوب، وهو ما بينه لي بشكل مباشر وبصراحة خوكستاين خلال لقائنا الأخير" في أثينا. وتابع مؤكدا: "ومع ذلك فإننا نعتبر أن هذا المشروع سيصب في المصالح القومية، وسيكون مربحا إقتصاديا ومن ناحية الطاقة" لليونان.
وكانت السفارة الأميركية في أثينا قد عممت بيانا تضمن قلق الولايات المتحدة من مشاركة اليونان في أنبوب Turkstream عبرها كونه "سيسبب قلقا للسلطات المختصة في الإتحاد الأوروبي ولن يكون حلا طويل الأجل لتلبية احتياجات الطاقة في اليونان"، حسب رأيها.
وتعرض الحكومة الأميركية بدلاً من أنبوب الغاز "دعم تنويع مصادر الطاقة بما فيه مشروع توريد الغاز الطبيعي من خلال أنبوب عبر البحر الأدرياتيكي يربط اليونان وبلغاريا، وتوسيع استخدام الغاز الطبيعي المسال".
ويملك «السيل التركي» حظوظاً كبيرة ليبصر النور نظراً إلى توافر الكميات اللازمة من الغاز لتشغيل الخط، وبراعة الكرملين في استغلال حاجة اليونان إلى مصادر دخل في مواجهة الأزمة الإقتصادية الخانقة التي تعيشها، إضافة إلى مخاوف بلدان البلقان وشرق أوروبا من وقف إمدادات الغاز الروسي، بخاصة أن بعض هذه البلدان يعتمد على «غازبروم» في أكثر من 90 في المئة لتأمين الكميات اللازمة لاقتصاداته والتدفئة المنزلية.
وفيما كثّفت موسكو إتصالاتها مع اليونان، كشفت مصادر مقربة من «غازبروم» عن نية لطي صفحة الخلافات مع المفوضية لمنع الإحتكار من دون اللجوء إلى القضاء. وتوصل الجانبان الروسي والتركي إلى الإتفاق عقب لقاء جمع رئيس «غازبروم» ألكسي ميللر، ووزير الطاقة التركي تانر يلدز، في أنقرة قبل أيام. وأعلن ميللر أن شركته ستحدد جدولاً زمنياً للإنتهاء من بناء خط «السيل التركي» لبدء ضخ الغاز فيه نهاية 2016. ويلبي الخط الجديد جزءاً من حاجات تركيا المتزايدة من الغاز.
يشار إلى أن "غازبروم" والشركة التركية "بوتاس" وقعتا في الأول من كانون الأول 2014 مذكرة تفاهم حول بناء خط أنابيب لنقل الغاز باستطاعة 63 مليار متر مكعب من الغاز سنويا من روسيا إلى تركيا يمر عبر قاع البحر الأسود، وسيبلغ طول خط الأنابيب نحو 1100 كم، وسينقل نحو 47 مليار متر مكعب من الغاز سنويا حتى الحدود التركية اليونانية.
وفي حين فاجأ الإتفاق الجديد بين «غازبروم» والجانب التركي معظم المراقبين. يبرز هنا العامل الإقتصادي واضحاً في محاولات «غازبروم» لتسريع الإنتهاء من خط «السيل التركي»، فالأرباح السنوية الصافية لعملاق الغاز الروسي تراجعت نحو 86 في المئة عام 2014 مقارنة بالعام السابق، بسبب تداعيات الأزمة الأوكرانية وتراجع سعر صرف الروبل، والعقوبات الغربية.
ويسخّر الكرملين أدواته الديبلوماسية للدفع بمشروع «السيل التركي» قدماً . فقد تجنبت «غازبروم» الخلافات السياسية المتصاعدة بين أنقرة وموسكو على خلفية زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأخيرة إلى يريفان، وتصريحاته لمناسبة الذكرى المئوية لمجازر الأرمن، وما تبعها من ردود للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، كما استطاع الكرملين التخفيف من تأثير العلاقات التركية اليونانية المتوترة على سير العمل في المشروع.
يشار إلى أن تركيا تعدّ ثاني أكبر سوق بعد ألمانيا لـ"غازبروم"، ففي عام 2014 صدرت "غازبروم" إلى تركيا 27.4 مليار متر مكعب من الغاز، وفي الوقت الحالي يتم توريد الغاز الروسي إلى تركيا عبر خط أنابيب "السيل الأزرق" (بلو ستريم) وخط أنابيب لنقل الغاز يمر عبر دول البلقان.
وبالتزامن مع مشاريع "غازبروم" في كل من تركيا واليونان أعلنت الشركة في 30 نيسان استعدادها لتزويد الصين بالغاز الروسي عبر المسار الشرقي أو ما يسمى "قوة سيبيريا" بعد أربع سنوات.
ويذكر أن نسبة نمو الطلب الصيني على الغاز بحلول العام 2019 ستصل إلى 90 بالمئة.
وأوضح ألكسندر ميدفيديف نائب الرئيس التنفيذي لشركة "غازبروم" أن جميع الأعمال يجري تنفيذها وفقا للجدول الزمني المحدّد، مشيرا إلى أنه تم شراء الأنابيب اللازمة لنقل الغاز، كما جرى البدء بأعمال وضع بعض الأنابيب، لافتا إلى أن بدء تزويد الصين بالغاز الروسي يعتمد على مدى جاهزية الطرف الصيني لاستلام الغاز.
وكانت شركة "غازبروم" وشركة "CNPC" الصينية قد وقعتا عقدا في أيار عام 2014 لمدة 30 عاما لتوريد الغاز الطبيعي الروسي إلى الصين عبر "الممر الشرقي" من طريق فرع من خط أنابيب "قوة سيبيريا"، وحينها قدر العقد من قبل الطرفين بـ 400 مليار دولار، ومن المقرر أن تبدأ توريدات الغاز بالتدفق في عام 2018 بحجم 5 مليارات متر مكعب في العام على أن تجري زيادتها لاحقا إلى 38 مليار متر مكعب سنويا تستخرج من حقول الغاز في منطقة الأورال.
وفي أوائل فبراير/شباط 2015 اتفقت "غازبروم" وشركة النفط الوطنية الصينية "CNPC" على مكان مرور جزء من خط غاز "قوة سيبيريا" تحت مياه نهر أمور، وطرحت شركة "غازبروم" بالفعل عددا من المناقصات لشراء أنابيب لبناء الخط بقيمة إجمالية بلغت 67.7 مليار روبل.