بعد يسار اليونان .. اليسار الإسباني والفرنسي يختبران شعبيتهما؟
أنعش صعود اليسار اليوناني ونجاحه في الانتخابات الأخيرة، الجسم اليساري الأوروبي، وها هو اليسار الإسباني والفرنسي يعيش عملية إعادة تنظيم حيوية، بعد نجاح حزب «بوديموس» اليساري (تتزعمه تيريزا رودريغيز)، في خرق الثنائية الحزبية للتمثيل السياسي بعد الانتخابات البرلمانية الإقليمية في الأندلس التي جرت في 22 من آذار، جنوبي إسبانيا، وتمكن من دخول برلمان الأندلس. في حين حافظ اليسار الفرنسي على مواقعه من دون تقدم.
فتحت عنوان "هزيمة اليسار لم تتم" كتبت صحيفة لوتون (فرنسية) أن اليسار الحكومي، ورغم هزيمته في الجولة الأولى من الانتخابات الإقليمية التي جرت في 22 آذار، حافظ على موقع قوي يجعله يأمل في الاحتفاظ بعدد مهم من الأقاليم 57 التي كان يسيطر عليها قبل الانتخابات.
وأضافت أن الاشتراكيين وحلفاءهم سيفقدون، على ما يبدو، عدداً من الأقاليم، لكن إذا ما تمكنوا من وقف هذه الخسارة، فسيحدون من التراجع الكبير لشعبيتهم، بل ويمكنهم القول إن هذا التصويت هو إشارة محتشمة للانخراط في الخط الاجتماعي الليبرالي الذي يدافع عنه مانويل فالس (رئيس الحكومة الفرنسية).
أما في إسبانيا وبعد أزمة وركود لست سنوات، ركزت حملات الأحزاب على "التغيير"، "التغيير المضمون" من قبل الحزب الاشتراكي، الذي دعا الناخبين إلى تجنب "الاختبارات" و"التغيير الهادئ" مع الحزب الشعبي الذي يصر على استئناف النمو (+1,4%) او "التغيير الذي لا عودة عنه" مع حزب "بوديموس".
قلب حزب «بوديموس» معادلة القوة داخل إقليم الأندلس، رغم فوز الحزب الاشتراكي العمالي الإسباني، ووفق هذه النتائج فقد أصبحت خمسة أحزاب سياسية تتقاسم البرلمان الإسباني المؤلف من 109 نواب، بعد أن كانت ثلاثة فقط تتنافس سابقا على مقاعد حكومة الأندلس، إذ فاز الحزب الاشتراكي ب47 مقعدا مقابل 33 للحزب الشعبي المحافظ وخمسة مقاعد لحزب اليسار الموحد، في حين حصل الحزبان الجديدان في الأندلس «بوديموس» (نستطيع)، و"سيودادانس" على 11 مقعدا وتسعة مقاعد على الترتيب. وأعرب "بوديموس" عن ارتياحه لنتائجه معتبراً في حديث لشبكة سيكستا الخاصة أنه زعزع "الثنائية الحزبية" التي تراجعت نتائجها إلى 60% من الأصوات في أندلوسيا بعدما تقاسمت 80% من أصوات المنطقة عام 2012.
وهذا "الاختبار" هو الأول في سلسلة من الاستحقاقات في إسبانيا ما بين انتخابات إقليمية وبلدية في أيار وانتخابات إقليمية مبكرة في كاتالونيا في أيلول وأخيراً انتخابات تشريعية في نهاية السنة حيث يواجه المحافظون خطر فقدان غالبيتهم المطلقة.
"التغيير الآمن" بالنسبة إلى الحزب الاشتراكي الذي خرج قوياً من الانتخابات بعدما اعتبره الجميع في موقع هش في مواجهة تصاعد قوة "بوديموس"، و"التغيير الهادئ" بالنسبة إلى الحزب الشعبي الذي سلط الضوء على معاودة النمو الإقتصادي (+1,4%) غير أنه يدفع ثمن سياسة التقشف التي كان وقعها شديدا على هذه المنطقة حيث تطاول البطالة حوالى ثلث السكان في سن العمل (34,2%) في مستوى قياسي بالنسبة إلى المناطق في أوروبا.
وهكذا بعد ست سنوات من الأزمة والمراوحة حل "التغيير" في طليعة شعارات الحملات الانتخابية للأحزاب الرئيسية، ولم يعد يكتفي اليسار الإسباني، بتنظيم التظاهرات، واحتلال ساحات المدن الرئيسية، والقيام بفعاليات رمزية، إلى الهيمنة على مؤسسات الدولة، وإعادة تأسيسها على أساس منطلقات "الديمقراطية الحقيقية"، بعد فشل حزبي الشعب اليميني الحاكم، ومنافسه الحزب الاشتراكي (من أحزاب الاشتراكية الدولية)، اللذين سيطرا على المشهد السياسي في البلاد، منذ عودة الديمقراطية إليها غداة وفاة الجنرال فرانكو، ومعه دكتاتوريته البغيضة، قبل أكثر من 40 عاما تقريباً.
وكان اليسار الإسباني قد بدأ يعيش عملية إعادة تنظيم حيوية، وظهرت مؤشرات ذلك واضحة حتى قبل إجراء انتخابات البرلمان الأوربي في العام 2014، حيث تمكن من الحصول على ثلاثة أضعاف أصواته السابقة.
وتشير المتغيرات على ساحة اليسار في الولايات والمدن الإسبانية، والبلديات إلى إمكانية تحقيق أكثرية تهمين على المؤسسات في انتخابات أيار 2015 المقبلة. والمثل الأبرز هو المبادرات التي انطلقت من الحركات الاحتجاجية، التي اتبعت أشكالاً متعددة في الولايات والمدن ركزت فيها إضافة إلى النشاط السياسي على ممارسة نشاطات ملموسة موجهة إلى شرائح وأوساط اجتماعية محددة.
ويشدد نشطاء المبادرة على أن كل ما حققه اليسار حتى الآن لم يعد كافيا، بما في ذلك نتائج استطلاعات الرأي التي تتوقع لأحزاب اليسار نجاحات انتخابية هامة، فهم يقولون: "نحن نريد اكثر،نحن نريد أن ننتصر، وهنا يكمن الفرق، ولكي ننتصر علينا بذل جهود استثنائية بهدف التوحد، فكل من يدخل الصراع منفردا، إنما يمارس الغطرسة"، ويضيفون " نحن لا نريد الحصول على مقعد في مجلس البلدية، لكي نؤكد وجودنا. نحن نريد ان ننتصر، لكي نغير الواقع القائم، ولكي نثبت أن بالإمكان اعتماد سياسة مختلفة جذريا".
وهذا النموذج يتحول إلى مدرسة ليس في كاتالونيا وحدها، بل إن مدناً إسبانية عديدة تشهد قيام منتديات أو تحالفات مماثلة للمشاركة في انتخابات المناطق والمدن، كما هي الحال في مدريد، وملقا، وفي المدن التي ينشط فيها "اليسار المتحد" وحزب "نحن قادرون"، والخضر، مدعومة من حركات ومنتديات مثل "برشلونة تنتصر"، و"موجة الاحتجاجات"، وغيرها، والتي تعمل على تطوير المواقف والبرامج، وتشكل قوائم مشتركة، ليس في غرف مغلقة، وإنما في اجتماعات عامة، ومناقشات مفتوحة.
وبديهي أن هذه الجهود لا تكفي لإيصال اليسار إلى الحكومة المركزية، ولكن الوصول إلى إدارة المدن، والمناطق، يتيح الكثير من الإمكانيات لإحداث التغيير لمصلحة الأكثرية في قطاعات السكن، والصحة، والخدمات العامة.وتستطيع قوى اليسار مثلا أن تحقق نظاماً للضمان الصحي لا يستثني أحداً، ويقلل من فترات انتظار المرضى، لأنها ستعمل على تخصيص المزيد من الأموال لهذا القطاع الحيوي، وكذلك توفير مساكن ملائمة أكثر، وبهذا تنهي عمليات الإخلاء القسري. وسيعمل اليسار أيضا على إلغاء قرارات الخصخصة، ومنع اتخاذ المزيد منها في البلديات، وإنشاء الأطر المطلوبة لبناء بنى تحتية اجتماعية، وكسر السائد المألوف وتحدي مركز السلطة.
في نهاية المطاف ستشكل هذه التحالفات المحلية وقاية ضد انقسام اليسار على نفسه، وتهيئة القاعدة المطلوبة لإعادة تنظيم اليسار على الصعيد الوطني، تمهيداً لدخول انتخابات البرلمان الإسباني الاتحادي بقوة، وإنهاء نظام الحزبين، والبدء بعملية تأسيس، تؤدي إلى الديمقراطية الحقيقية.