كلما طرح مشاريع طرق يقلص الرحلات بين الدول، كمشروع قطار سريع بين موسكو وبكين، أو بين طهران وبكين وموسكو، يستحضر مشروع إحياء "طريق الحرير" في صورته الرومانسية - نصفها تاريخي ونصفها الآخر أسطوري - لقوافل الجمال التي سلكت طريقاً متعرجا عبر صحاري وجبال غير مطروقة في آسيا الوسطى.
لكن طريق الحرير ليس مجرد جزء من ماض أسطوري، فهو سمة مهمة من سمات السياسة الخارجية الصينية الحالية، القادرة على الحلول بدلاً من الولايات المتحدة جيواستراتيجياً باعتبارها القوة العالمية الصاعدة، وكان عبارة عن خط مواصلات "بريه" قديمة ، ممتدة عبر شمال و غرب الصين و آسيا بأكملها ، حتى تصل إلى افريقيا و أوروبا ، و بواسطته انتقلت "الحضارة المادية" لتنتشر على نطاق واسع
وفي ضوء ذلك لعب هذا الطريق دوراً كبيراً في صراعاتٍ سياسية، كانت أهدافها إقتصادية بحتة، وتتركز في الشرق العربي ، و هذا ما حدث في العهد البيزنطي، عند محاولة البيزنطيين بمعاونة الأحباش من السيطرة على أرباح التجارةِ الصينيّةِ والهندية، عن طريق السيطرةِ على جزيرة العرب، وتمكين الأحباش من الإستيلاء على اليمن .
ونستنتج بأن هدم الكعبة لم يكن الهدف الرئيسي لـ "أبرهة الأشرم"، وإنما للسيطرةِ على العرب والقريشيين، وبذلك كانت دوافعه إقتصاديّة وسياسيّة بحتة .
وفي هذا الإطار تتلاقى استراتيجية الرئيس السوري بشار الأسد حول "البحار الأربعة" الذي كا قد اقترحه عندما كانت تركيا من ضمن المحور مع "طريق الحرير". التحالف او تقاطع المصالح السوري- الصيني "الايراني – الروسي ـ التركي (سابقا)" كان محور تقرير بحثي وضعته المديرة السابقة لمكتب الشؤون الصينية في وزارة الدفاع الاميركية كريستينا لين لصالح فصلية "تشاينا بريف": "يبدو أن سياسة سوريا التي "تتجه نحو الشرق" تُظهر تقارباً مع المصالح الصينية في بحر قزوين. إن تفاعل تأثير الصين المتزايد في بحر قزوين من خلال "طريق الحرير" الحديث الخاص بها، والذي تم تدعيمه بواسطة "إستراتيجية البحار الأربعة" الحديثة التي وضعها الرئيس الأسد، ستكون له انعكاسات هامة بالنسبة للولايات المتحدة، والإتحاد الأوروبي وحلفاء آخرين".
وترسخ مصالح الصين في منطقة بحر قزوين، "إستراتيجية طريق الحرير" الأوسع التي تتبعها تجاه الشرق الأوسط وأوروبا وأفريقيا التي تشكل «اتحاد البحر المتوسط». ولا تقوم الصين بالإستثمار في الأسواق الناشئة فحسب، بل طورت أسواق من خلال الدبلوماسية التجارية باستعمال الدولار (مثل عملية الإنقاذ الضخمة التي قامت بها في اليونان) وتقوم بفتح آفاق لزيادة النفوذ الصيني في الدول المتقدمة المتعثرة مالياً، وهو الأمر الذي قد لا يتعلق فقط بالقروض الصينية بل يرتبط أيضاً باتفاقيات بيع البنية التحتية أو التكنولوجيا أو الأصول المالية.
وفي الوقت الذي تتجه فيه أنظار الصين غرباً نحو مصادر الطاقة، تحرتك دمشق في الوقت نفسه نحو الشرق. ومنذ عام 2009، سعى الرئيس السوري بشار الأسد إلى تشجيع "إستراتيجية البحار الأربعة" لتحويل دمشق إلى مركز تجاري وسط البحر الأسود، والبحر الأبيض المتوسط، والخليج العربي/البحر العربي وبحر قزوين. لقد قام الأسد بالترويج لهذه الفكرة في محادثاته مع تركيا في أيار/مايو 2009، لتقريب سوريا مع الدول المطلة على تلك الشواطئ ـ تركيا، إيران، وأذربيجان - حيث صرح قائلاً "عند دمج الفراغ الاقتصادي القائم بين سوريا، وتركيا، والعراق، وإيران، سنربط بين البحر المتوسط، وبحر قزوين، والبحر الأسود، والخليج .... نحن لا نحظى بأهمية في الشرق الأوسط فحسب... سنصبح نقطة تقاطع إلزامية للعالم كله في مجال الإستثمار والنقل وأكثر من ذلك، بمجرد أن نربط بين هذه البحار الأربعة". ووصف الرابطة التي تمثلها سوريا بأنها نقطة المركز لـ "نطاق أحادي أكبر حجماً مع تركيا وإيران وروسيا...إننا نتحدث عن مركز العالم"، وهكذا، يمكن أن تعمل سوريا بمثابة وسيلة لوصول دول الإتحاد الأوروبي إلى الأسواق في العالم العربي ودول غرب آسيا. وقد بحث الأسد هذه الرؤية مع ميدفيديف في أيار/مايو من هذا العام، وفي آب/أغسطس 2009، حصل على مباركة مرشد الثورة الإيرانية السيد علي خامنئي عندما عرض عليه هذه الإستراتيجية.
ولكن هذا المشروع الحيوي والهام للأسد "دفن" مؤقتاً بعد انكشاف الدور التركي في الحرب العالمية القائمة على سوريا.
ترتبط "إستراتيجية طريق الحرير" الصينية بسياسة سوريا التي تنظر شرقاً نحو منطقة بحر قزوين التي تعتبر مصدراً أساسياً لتغذية مشروعات خطوط أنابيب مختلفة مثل: الغاز الأذربيجاني للمرحلة الأولى من خط أنابيب "نابوكو" وصولاً إلى أوروبا، والذي سيرتبط في النهاية بـ "خط الغاز العربي" وإلى الشرق الأوسط؛ غاز تركمانستان وكازاخستان عبر "آسيا الوسطى ـ خط الأنابيب الصيني" و "خط أنابيب كازاخستان - الصين" إلى الصين؛ غاز تركمانستان إلى أفغانستان وباكستان والهند عبر "خط أنابيب تركمانستان – أفغانستان – باكستان ـ الهند" إلى جنوب آسيا. وفي الوقت نفسه، يبدو أن هيكل أمان إقليمي أوراسي (أوروبي آسيوي) يعتمد على تأمين الطاقة آخذ في البزوغ في "إستراتيجية البحار الأربعة" للإرتباط مع "منظمة شنغهاي للتعاون".
خمسة أهداف صينية
في عام 1411، أقام الأميرال الصيني تشانغ خه قرب مدينة جالي الساحلية في سريلانكا نصباً تذكارياً حجريا يحمل نقوشاً (ترجمت إلى الصينية والفارسية والتاميلية) جذابة لآلهة الهندوس، لكي تبارك جهوده الرامية إلى بناء عالم مسالم يعتمد على التجارة والتبادل التجاري.
وبعد ستمائة عام، يتبنى الرئيس الصيني شي جين بينغ الآن هدفاً مماثلا، غير أنه يناشد الزعماء السياسيين في مختلف أنحاء أوروبا وآسيا مساندة قضيته.
في سبتمبر/أيلول 2013، أعلن شي في خطاب ألقاه بجامعة ظار باييف في كزاخستان عما أسماه "حزام طريق الحرير الاقتصادي" كمبادرة جديدة في السياسة الخارجية، تهدف إلى تعزيز أواصر التعاون الدولي والتنمية المشتركة في مختلف أنحاء أوراسيا.
ولتوجيه هذه السياسة، عرض شي خمسة أهداف محددة: تعزيز التعاون الاقتصادي، وتحسين سبل ربط الطريق، وتشجيع التجارة والاستثمار، وتسهيل تحويل العملات، ودعم عمليات التبادل بين الشعوب.
كما أكد الرئيس شي أمام البرلمان الاندونيسي أن الهدف من مبادرة طريق الحرير الاقتصادي يتلخص في إحياء علاقات الصداقة القديمة في العالم المعاصر الذي تحكمه العولمة. ولكن لا شك أن لديه دافعا وطنيا محليا أيضا، وهو الدافع الذي تمتد جذوره إلى فجوة الرخاء المتنامية بين شرق الصين وغربها.