التحدي الحقيقي له في البعد الاجتماعي للتنمية الذي سيظل مؤجلا
كيف سيدير السيسي علاقته برجال الأعمال المصريين؟
يُشكل رجال الأعمال في مصر إحدى الكتل المؤثرة في تفاعلات المشهد السياسي المصري، لا سيما أنهم يمتلكون أدوات فاعلة ارتبطت بأدوارهم المتنوعة، سواء التنموية أو الاجتماعية أو السياسية. ويبدو أن السؤال الذي يُطرح حاليًّا هو كيفية إدارة النظام السياسي الجديد لعلاقته برجال الأعمال في ظل معضلة تحقيق التوازن ما بين تعزيز دورهم التنموي، وتقليص تأثيرهم ونفوذهم السياسي، خاصة أن أحد عوامل التخمر الثوري قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير ارتبطت بالتحالف ما بين رأس المال والسلطة، وهو ما كان له تداعياته السلبية على السياسة والاقتصاد معًا.
أولا: طبيعة دور رجال الأعمال داخل النظام المصري
تنوعت أدوار رجال الأعمال داخل النظام السياسي المصري، والتي تشكلت في دورين أساسيين؛ الأول الدور السياسي: فلا شك أن ثمة دورًا سياسيًّا لرجال الأعمال اختلفت حدوده حسب السياق العام، وما إذا كان محفزًا أو رافضًا لمثل هذا الدور، فثورة الخامس والعشرين من يناير أثرت على حدود هذا الدور الذي شهد نوعًا من الكمون في المراحل الثورية الأولى؛ إلا أن التخبط في إدارة المرحلة الانتقالية التي أعقبتها، ثم وصول الإخوان إلى سدة الحكم؛ أدى إلى محاولات مساومتهم والسعي لوراثة الإمبراطورية الاقتصادية، وهو ما تجلى في زيادة غير مسبوقة لعدد الشركات التي أُنشئت في عهد الإخوان، فضلا عن انتشار عدد من رجال أعمال الجماعة في مراكز صنع القرار، وسعيهم إلى تنفيذ مشروع التمكين، وهو ما شكل أحد عوامل قيام ثورة 30 حزيران/ يونيو.
وعقب الحراك الثوري الثاني وبرغم التقلص التدريجي للدور السياسي لرجال الأعمال في تشكيل الحكومات المتعاقبة؛ فإن ممارساتهم السياسية تبلورت من خلال مستويين أساسيين؛ الأول تمويل وإنشاء الأحزاب السياسية، لا سيما أن قانون الأحزاب أتاح إنشاء الأحزاب بالإخطار المسبق، أما المستوى الثاني - وربما هو الأهم - فتجسد في استغلال المحطات الفضائية التي قام عددٌ من رجال الأعمال بتـأسيسها لتسويق وجهة نظرهم السياسية.
يأتي الدورُ الثاني - وربما الأهم - مرتبطًا بالدور التنموي، حيث يشكل البعد التنموي لرجال الأعمال الدور الأبرز لهم داخل النظام المصري، لا سيما أن مشروعاتهم الاستثمارية تُعطي مؤشرًا على إمكانية تعافي الاقتصاد واستقراره، وعلى التزام الدولة بالليبرالية الاقتصادية وحرية السوق، وهي مقومات أساسية لتصنيف الاقتصاد المصري في المؤسسات الاقتصادية العالمية، والتي تمنحه جدارة الثقة لاستيعاب الاستثمارات العربية والأجنبية.
أما على المستوى الداخلي فإن محورية القطاع الخاص ودوره التنموي تتجلى في استيعابه جزءًا معتبرًا من النازحين الجدد لسوق العمل، بما يُسهم في الحد من تفشي ظاهرة البطالة، لا سيما أنها وصلت إلى مستويات قياسية تقترب من 23% وفق بعض التقديرات الحكومية، وتحتاج إلى دور أكبر من القطاع الخاص، خاصةً مع تشبع الجهاز الحكومي، وبما ينعكس أيضًا على تخفيض حدتها، وتفادي تأثيراتها السلبية على الاستقرار المجتمعي.
ثانيًا: حدود الاتفاق والاختلاف مع رؤية السيسي
شكَّل إدراك الرئيس عبد الفتاح السيسي لمحورية الدور التنموي والاجتماعي لرجال الأعمال تحديدًا لرؤيته وخطابه السياسي الموجه إليهم، والذي سعى من خلاله للموازنة بين إعادة الاعتبار لدور الدولة في النشاط الاقتصادي، أو ما أسماه الدور الإنتاجي كشريك أساسي مع القطاع الخاص، دون أن يكون بديلا عنه، وبين ترديده دائمًا لمقولة إنه غير محمل بفواتير لأحد إلا للشعب المصري.
وربما قصد السيسي بذلك رجال الأعمال، لذلك جاءت دعوته لهم بضرورة مساندة ودعم الاقتصاد، والمشاركة في تحجيم التدهور الاقتصادي الذي يتمثل في تراجع معدل النمو لنسبة لا تتجاوز 2%، ووصول عجز الموازنة إلى 12% (240 مليار جنيه) وارتفاع نسبة الديون إلى حوالي 93.7% (2.1 تريليون جنيه) من الناتج المحلي الإجمالي، وتراجع الاحتياطي من النقد الأجنبي إلى حوالي 16.68 مليار دولار بنهاية يونيو الماضي، وضعف معدلات الاستثمار التي لم تعد تتجاوز 16% من الناتج المحلي الإجمالي، فضلا عن تراجع عائدات بعض الأنشطة الرئيسية للاقتصاد مثل السياحة، وتأثر قطاعات التشييد والبناء.
وعلى الرغم من تعدد لقاءات الرئيس السيسي برجال الأعمال والمستثمرين، ومصارحتهم بحقيقة التداعيات السلبية للوضع الاقتصادي، وخطورتها على الاستقرار المجتمعي؛ فإنه تبنى خطابًا تشجيعيًّا موجهًا إليهم غلبت على مفرداته مقولات الوطنية، وضرورات التضامن والتكافل للعبور من الأزمة الحالية بتكاتف الجميع، كما طمأنهم بعدم اللجوء إلى أي إجراءات استثنائية. في المقابل بدت استجابة معظمهم دون المأمول، وهو ما تجلى في العديد من المواقف التالية:
1ـ ما أشار إليه عددٌ من الكتاب والصحفيين الذين حضروا لقاءات السيسي مع رجال الأعمال خلال الحملة الانتخابية، والتي تضمنت توجيه نداءات صريحة لهم بعد شرحه للتحديات التي تواجه مصر أمنيًّا واقتصاديًّا بضرورة التخلي عن جزء محدود من ثرواتهم لإنقاذ الاقتصاد المصري، إلا أن هذه الدعوة لم تجد تنفيذًا لها على أرض الواقع. برغم أن الدولة لطالما ساندتهم، ووفرت لهم السياق المواتي لتعزيز وتنمية استثماراتهم، بما مكنهم من الحصول على عوائد ربحية ربما لم تتحقق لنظرائهم في دول أخرى.
2ـ محدودية تبرعاتهم مقارنةً بحجم ثرواتهم لصندوق تحيا مصر، والذي تأسس على خلفية قيام الرئيس عبد الفتاح السيسي بالتبرع بنصف ممتلكاته لهذا الصندوق مشاركة منه في دعم الاقتصاد المصري. في هذا السياق وبرغم تبرعات عدد من رجال الأعمال، فإنها لم تتجاوز 5 مليارات جنيه، وربما ستصل على أقصى تقدير إلى 10 مليارات وهي نسبة متدنية لا تتجاوز 10% من المستهدف من رجال الأعمال.
3ـ الموقف السلبي لبعض رجال الأعمال من قرارات تخفيض دعم الطاقة، لا سيما أن الجزء الأكبر من الدعم يذهب إلى مشروعاتهم الاستثمارية، لذا بدت مطالبتهم خلال لقائهم بالرئيس السيسي في منتدى الأخبار للحوار في 10/7/2014، والذي ناقش دور رجال الأعمال في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بضرورة الإعلان عن السياسات الضريبية للحكومة خلال السنوات المقبلة، والإفصاح عن خطة ترشيد دعم الطاقة وبرامجها الزمنية، لتوضع في الاعتبار عند إنشاء المشروعات الاستثمارية.
ثالثًا: آليات السيسي لإدارة العلاقة مع رجال الأعمال
في ظل محدودية تبرعات رجال الأعمال، وضعف استجابتهم لمواجهة المخاطر الاقتصادية، مع هيمنة مفاهيم مثل رشادة الخيارات الاقتصادية، ودافع الربح المتحكم في أنشطة مؤسسات القطاع الخاص - بدت الحاجة ماسة إلى ضرورة اتجاه النظام الجديد للبحث عن أُطُر مستحدثة تضع ضوابط جديدة للنشاط الاقتصادي تضمن الموازنة بين الحفاظ على حقوق الدولة، ومراعاة حقوق المستثمرين، وبما يسهم أيضًا في تحجيم التداعيات السلبية للأزمة الاقتصادية. لذلك جاءت بعض الإجراءات التي اتخذها الرئيس عبد الفتاح السيسي لتمثل آليات تعكس طبيعة إدراكه لكيفية إدارة علاقته مع مجتمع رجال الأعمال، والتي تمثل أهمها في التالي:
1ـ ترشيد دعم الطاقة: شكلت قرارات ترشيد دعم الطاقة أحد المداخل المؤثرة في إعادة تعريف العلاقة بين النظام الجديد ومجتمع رجال الأعمال؛ حيث رفض الرئيس السيسي قبول النسخة الأولى من موازنة العام المالي 2014 – 2015 نظرًا لأن عجز الموازنة بها تجاوز 300 مليار، لذلك تمثلت أبرز تعديلات الموازنة في نسختها النهائية - والتي وافق عليها - في خفض دعم الطاقة بنحو 41 مليار جنيه، ليكون بحدود 100 مليار جنيه.
2ـ تعديل وتنقية قوانين الاستثمار: شكلت القوانين الاستثمارية المتضاربة أحد العوامل التي أسهمت في ضياع حقوق الدولة، ومنها - على سبيل المثال - قوانين الاستثمار الأجنبي التي تمنح المستثمر الأجنبي حق تحويل أرباحه للخارج، ولا تلزمه باستثمار جزء منها في مصر. لذا جاء إصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي قرارًا جمهوريًّا بتشكيل لجنة الإصلاح التشريعي والتي ستضطلع بمهمة النظر فيما يقرب من ستين ألف تشريع تحتاج إلى مراجعة، لا سيما أن البعض منها يعود تاريخه إلى عام 1920، وسيكون من بينها عدد كبير من القوانين الخاصة بالاستثمار، والتي سيتم تحديثها وتعديلها لتيسير الاستثمار.
3ـ تفعيل دور الأجهزة الرقابية: ترتبط فعالية الأجهزة الرقابية بمدى قدرتها على مكافحة الفساد، وتقديم مرتكبيه إلى العدالة، لا سيما أن للفساد تكلفته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وانعكاساته السلبية على مسار التنمية. وهو الأمر الذي دفع الرئيس عبد الفتاح السيسي للقول خلال لقائه مع رؤساء تحرير الصحف على خلفية رفع أسعار الوقود، ونقلته صحيفة "الأهرام"، بأن الفساد تأصل في البلد على مدى أربعة عقود، وأن خميرته في مؤسسات الدولة موجودة حتى تجذرت، والتي تحتاج إلى وقت لإعادة بنائها على أسس جديدة أكثر كفاءة ونزاهة.
4ـ منع الممارسات الاحتكارية: تُعد الممارسات الاحتكارية إحدى المعضلات الهيكلية التي تواجه الاقتصاد المصري، ويمارسها عددٌ معينٌ من رجال الأعمال من خلال رفع الأسعار، أو اقتسام الأسواق، أو التواطؤ في المناقصات والممارسات والمزايدات، أو تعطيش السوق من السلع الاستراتيجية. لذلك جاء قرار الرئيس عبد الفتاح السيسي بتعديل بعض أحكام قانون حماية المنافسة، ومنع الممارسات الاحتكارية، ليشكل أحد أبرز الآليات لدعم المحاور التنافسية، ومنع الاحتكار الذي يمارسه بعض رجال الأعمال، وبما يُتيح حرية ممارسة النشاط الاقتصادي الذي يحفظ لكافة أطراف السوق حقوقهم من منتجين، وصناع، وتجار، ومستهلكين.
وإجمالا يمكن القول إن إدارة الرئيس عبد الفتاح السيسي لعلاقته برجال الأعمال من المستبعد فيها أي صدام معهم، وإنما تفعيل لدور القانون وبسط سيادته، فضلا عن تعزيز أدوات الاقتصاد الناجزة، والتي سترتبط بالأساس بحدود رؤيته الاقتصادية القادمة، ونمط تفضيلاته، وما إذا كان الإصلاح الاقتصادي الذي بدأه بترشيد دعم الطاقة ستتبعه إجراءات فاعلة للحماية الاجتماعية تُفضي إلى أن يشعر المصريون بأن الأثرياء لا الفقراء هم من يدفعون الفواتير المستحقة. أم أن البعد الاجتماعي للتنمية سيظل مؤجلا؟ وهنا يكمن التحدي الحقيقي.