شكل تصويت مجلس العموم البريطاني على الاتفاق التجاري والمالي المبرم بين رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي وحكومتها مع الاتحاد الأوروبي والمعروف "بالبريكست" في منتصف يناير/ كانون الثاني.. صفعة مؤلمة جدا لها ووثيقة سحب ثقة عن سياساتها المستقبلية. ومن المرجح أن تكون هذه الخطوة شرارة البداية لحال من الغموض الهائل تكتنف خروج بريطانيا من الاتحاد. وقد حذرت ماي من أن رفض الاتفاق الذي توصلت إليه يفتح الباب أمام احتمال وقف عملية الخروج أو أن تنفصل بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي في حال من الفوضى من دون اتفاق. ووعدت بأن يكون ردها سريعا إذا آلت الأمور إلى الهزيمة، ووعدت بأن يكون ردها على الهزيمة سريعا جداً.
لم تنجح عمليات الإرجاء المتكررة التي لجأت إليها رئيسة الوزراء البريطانية المحافظة تيريزا ماي، ولا التطمينات الأوروبية "القليلة" في حشد الأنصار وكسب مزيد من المؤيدين لخطتها، فقد رفض البرلمان مسودة اتفاق البريكست الذي توصلت إليها ماي مع الاتحاد الأوروبي بهامش كبير، ما جعل بريطانيا أمام مصير مجهول، فما الخيارات المطروحة؟
ومباشرة بعيد إعلان نتائج التصويت، توجهت ماي في كلمة قصيرة إلى أعضاء مجلس العموم، قائلة: "المجلس قال كلمته والحكومة ستمتثل"، وتابعت "من الواضح أن المجلس لا يؤيد هذا الاتفاق، لكن التصويت هذه الليلة لا يكشف ماذا يؤيد".
مضيفة أن التصويت لا يكشف أي شيء عن الطريقة التي ينوي فيها (المجلس) تطبيق قرار الشعب البريطاني بالخروج من الاتحاد الأوروبي، أو حتى ما إذا كان ينوي فعل ذلك، وقالت ماي "استمعوا للشعب البريطاني الذي يريد تسوية هذه المسألة".
وكانت رئيسة الوزراء البريطانية قد ناشدت في جلسة سبقت عملية التصويت النواب للمصادقة على الاتفاق، معتبرة أن الواجب يفرض عليهم تطبيق ما صوّت من أجله البريطانيون في الاستفتاء الذي أجري العام 2016.
وقالت ماي مخاطبة النواب: "أعتقد أن الواجب يفرض علينا تطبيق القرار الديموقراطي للشعب البريطاني"، محذرة النواب من أن الاتحاد الأوروبي لن يعرض "اتفاقًا بديلاً"، وأضافت "المسؤولية الملقاة على عاتق كل فرد منا في هذا التوقيت كبيرة جدًا، لأنه قرار تاريخي سيحدد مستقبل بلادنا لأجيال".
من جهته، قال وزير الخارجية السابق بوريس جونسون، إن ما حدث هزيمة أكثر مما توقعه الجميع، وهذا يعني أن اتفاق رئيسة الوزراء أصبح الآن "في عداد الموتى"، وأدت هذه النتيجة إلى دعوة جيرمي كوربين زعيم حزب العمال المعارض إلى التصويت على سحب الثقة من حكومة المحافظين وبالتالي إجراء انتخابات عامة.
وسبق أن أجلت المسؤولة البريطانية، التصويت على الاتفاق في البرلمان مرتين سابقتين لقناعتها بأن حظوظ تمريره ضئيلة للغاية، وتفيد استطلاعات الرأي بأن 56% من البريطانيين يفضلون البقاء في الاتحاد الأوروبي في حال عدم التوصل إلى اتفاق بشأن الانفصال عنه، وينتمي النواب الرافضون للاتفاق إلى أحزاب "العمال" و"الديمقراطيين الأحرار" و"الوطني الأسكتلندي" و"الديمقراطي الوحدوي"، فضلاً عن نواب من حزب المحافظين الغاضبين من رئيسة الوزراء.
لا شك أن مغادرة بريطانيا المؤكدة للاتحاد الأوروبي والتي من الممكن أن تدخل حيز التنفيذ في 29 مارس 2019 ستضع جميع أعضاء مجلس العموم في مأزق حقيقي بحيث سيكون خروجها مذلاً و مهياً جدا. فعلي الرغم من مجهودات ماي لردع الصدع الداخلي قصد الحصول علي ضوء أخضر من حزب المعارضين لحفظ ماء وجه بريطانيا كدولة عظمي يحقق لها خروجاً مشرفاً ومكرماً, إلا أن العوائق الداخلية من قبل المعارضين وبعض الأطراف في المجتمع المدني تبقي من أهم العوامل السلبية لها والتي من الممكن أن تؤدي إلى وفاة هذا الإتفاق.
فهذا التصويت بالأغلبية من قبل مجلس العموم البريطاني بـ 432 صوت ضد هذا الإتفاق مقابل 202 صوت مؤيد لهذا الإتفاق يعد نذير خطر على مستقبل ماي السياسي بحيث دخلت حكومتها مباشرة بعد هذا التصويت في مساءلة مستمرة حول مصير سياسة بريطانيا ضمن الفضاء الأوروبي الموحد. كما أن هذا التشتت في المواقف بين أعضاء مجلس العموم مع تمسك زعيم المعارضين في حزب العمال جريمي كوبن برفع عريضة لسحب الثقة عن حكومة تيريزا ماي مع دعوتها إلى الاستقالة فتح الآفاق أمام أزمة سياسية بريطانية داخلية من جهة و أزمة دبلوماسية أوروبية من جهة أخري.
إن هذا الإتفاق الذي تم إبرامه بعد مفاوضات دبلوماسية مكثفة طالت لأكثر من سنتين بين أعضاء البرلمان الأوروبي ورؤساء دول الإتحاد الأوروبي مع الحكومة البريطانية الحالية يبقي المخرج الرئيسي والوحيد من هذه الأزمة. بالتالي إن أي إنحراف عن هذا المسار التوافقي الأوروبي بالإجماع بين جميع الأطراف سيمثل الانجراف نحو المجهول وسيتسبب بخروج بريطانيا بكف حنين فارغا وبدون مكاسب أو امتيازات مثل "الطلاق بين الزوجين بالتراضي".
إن هذا الرفض للإتفاق علي "البريكست" يكمن بالأساس في الرغبة من أجل المطالبة بحصد المزيد من الامتيازات التفاضلية خاصة منها الإقتصادية كالإعفاءات الجمركية علي المبادلات التجارية التي كانت تتمتع بها بريطانيا قبل الخروج في ظل الاتحاد الجمركي المشترك. فهذا الإتفاق هو في الأساس يندرج ضمن طرح مجموعة من المكاسب المالية والتجارية لبريطانيا كمبادرات اقتصادية لتسمح لها بالخروج في إطار صفقة تضمن لها المبادلات التجارية والمعاملات المالية مع الاتحاد الأوروبي.
في النتيجة إن هذا الخروج ستكون له تأثيرات سلبية مباشرة علي الاقتصاد البريطاني خاصة في الأسواق المالية الداخلية والمبادلات التجارية أو من جانب جلب رؤوس الأموال الإستثمارية الأوروبية.
وكانت ماي قد أبرمت اتفاقًا للانفصال عن الاتحاد الأوروبي في الـ8 من ديسمبر/كانون الأول الماضي، يقضي بخروج منظم من الاتحاد وترتيب فترة انتقالية تمتد إلى 21 شهرًا للتفاوض على صفقة تجارة حرة، وشمل الاتفاق ملف حقوق المواطنين الأوروبيين في بريطانيا والبريطانيين في دول الاتحاد، وملف كلفة الانفصال المتمثلة في الالتزامات المالية لبريطانيا في إطار موازنة الاتحاد وملف الحدود الأيرلندية.
ومن المرجح أن تكسب ماي الثقة، وفي هذه الحال لا بد من أن تعود إلى البرلمان وتقدم خطة جديدة عن الخطوات المقبلة التي ستتخذها بريطانيا قبل نهاية يوم 21 من يناير/كانون الثاني، وقالت بعض وسائل الإعلام المحلية إن ماي ستطلب من البرلمان التصويت مرة أخرى على الاتفاق، وربما يحدث ذلك بعد طلب مجموعة أخرى من التطمينات من الاتحاد الأوروبي.
ولم يقدم قادة الاتحاد الأوروبي سوى سلسلة من التوضيحات، إلا أن وزير الخارجية الألماني هايكو ماس ألمح في ستراسبورغ إلى احتمال إجراء مزيد من المحادثات على الرغم من أنه استبعد إعادة التفاوض الكامل على نص الاتفاق.