بعد مراوحة دامت قرابة التسعة اشهر، ابصرت حكومة الرئيس سعد الحريري النور، معلنة انتهاء حقبة قاسية من الفراغ الحكومي حملت تداعيات سلبية كبيرة على الاقتصاد.
"الى العمل" اسميت الحكومة الجديدة وعلقت عليها آمال كبيرة للنهوض بالاقتصاد اللبناني، على رغم ما حملة بيانها الوزاري من ثغرات مهمة على الصعيد الاقتصادي، اذ غاب عن البيان الالتفات الى تخفيض مستوى البطالة، والمحافظة على الخريجين الجامعيين، ومعالجة العجز السنوي في الميزان التجاري، وعدم تشجيع الاستثمار في القطاعات الانتاجية من صناعة وزراعة.
في الواقع، تقف حكومة "الى العمل" في موقف لا تحسد عليه، فأجندتها تعج بالمسؤوليات والملفات الملحة التي تحتاج الى معالجات سريعة، فقطاع الكهرباء يعاني، واستفحال الفساد يتطلب الضرب بيد من حديد، وعجز الموازنة المزري يستدعي اجراءات سريعة تخفض الانفاق ومشي في حقل الغام جراء الحاجة الى تأمين مداخيل اضافية دون فرض ضرائب جديدة قد تشعل الشارع ووضع موازنة لعام 2019 تتسم بالواقعية وتحوي خطوات جدية تخفض العجز.
امام هذه المسؤوليات الضخمة، تبقى الحكومة متفائلة الى حد كبير، معلقة كل آمالها على مؤتمر "سيدر" والهبات والقروض التي سيجنيها لبنان والتي من المنتظر ان تحرك عجلة الاستثمار بشكل كبير وتخلق آلاف فرص العمل.
يحرص بعض المسؤولين بإستمرار الى ايهام اللبنانيين ان المؤتمرات الدولية ليست خياراً امام لبنان بل ضرورة لتعزيز اقتصاده ومنعه من السقوط. ويروجون ان هناك اجماع واتفاق على ان استمرار الواقع اللبناني على ما هو عليه سيحمل نتائج كبيرة سيئة على الإقتصاد، مؤكدين ان برنامج مؤتمر "سيدر" لم يأتِ من فراع، انما حصل بالتعاون مع صندوق النقد الدولي درس خيارات عدة وتوصل الى قناعة تبنتها الدولة اللبنانية، وهي ان تنفيذ البرنامج الاستثماري بالتزامن مع تصحيح مالي بنسبة 1 % على مدى 5 سنوات، سيوصل لبنان الى بر الامان.
الا ان هذه الصورة المضيئة لم تخلق اجماع حول مؤتمر "سيدر" على رغم البشائر السارة التي حملها للبنانيين لناحية تمويل مشاريع البنى التحتية وخلق عشرات آلاف فرص العمل. وتنوّعت الإعتراضات بين اتهامات بإغراق الإقتصاد بالمزيد من الديون، والتلهي بإنجازات وهمية عبر التسوّل من الخارج، ما يطرح سؤال جوهري حول وجود بدائل عن مؤتمر "سيدر" توصل اقتصاد لبنان الى بر الأمان الذي قد تكون الطريق اليه طويلة في ظل تزايد المؤشرات التي توحي بسلوك البلد منحى خطير على الصعيدين المالي والاقتصادي، ما يهدد بإنفجار عدد من الأزمات الإجتماعية.
قد تكون الإعتراضات الكثيرة المطروحة والتي دغدغت عقول مواطنين كثر يبحثون عن فسحة امل تخرق جدار الازمة، محقّة. لكن يعتريها عيب يتجلّى بقدرتها على تشريع الابواب امام جدلٍ قد يكون عقيما اذ يطال مسلمات اقتصادية لبنانية. ففي حين يشدد المعنيون بالشأن الإقتصادي على صوابية السياسات المالية التي كرّست الثقة بالليرة لما يحمله هذا الامر من ايجابيات كبيرة للإقتصاد، يؤكد الخبير الإقتصادي د. ايلي يشوعي ان البدائل التي تغني لبنان عن مؤتمرات الدعم الأولية، يمكن تلخيصها بتغيير السياسات المالية التي دمرت الاقتصاد على مر سنوات، اذ يرى ان وظيفة المدخرات في اي بلد هي تمويل الإستثمارات والتجارة الخارجية، ما يشير الى ان وضعها في الصناديق المركزية وحجبها عن جميع القوى الفاعلة اقتصادياً خطأ كبير ادى الى دمار الإقتصاد". ويستغرب يشوعي "تعليل هذه السياسات بحجة تثبيت سعر صرف الليرة في حين ان 67% من الودائع هي بالدولار".
مشلكة بنيوية
لعل صعوبة الوضع الاقتصادي وخطورته دفعت السلطة الى سلوك طريق "سيدر" بناء على تأكيدات من مراجع دولية عليا بفاعليته في انقاذ لبنان، لكن في الواقع، وبعيداً عن "سيدر" يستلزم النهوض بالإقتصاد التعمّق بمشاكله، حيث تشير الدراسات الى ان الأداء اللبناني الضعيف على كل الجبهات الاقتصادية عملياً منذ انتهاء الحرب، وعلى الرغم من الظروف العديدة المؤاتية، يدل على وجود مشكلات في بنية الاقتصاد اللبناني.
وتشدد الدراسات على ضرورة ادراك أن المشكلات البنيوية في لبنان هي مستوطنة ودائمة لأنها موجودة منذ الاستقلال وليست من مخلفات الحرب وحسب. إذ إن ثمة نظرة منتشرة على نطاق واسع، خصوصاً بين الرسميين، بأن اعادة إرساء الظروف التي كانت سائدة في لبنان قبل عام 1975 ستعيد للبنان ازدهاره الذهبي، وللنمو قوته السالفة. وتؤكد هذه الدراسات ان هذا الاعتقاد السائد عن ازدهار لبنان قبل 1975 هو وهم أكثر منه واقع، وقد تعزّز بفعل الأداء المالي القوي الذي حقّقه لبنان واستقرار الاقتصاد الكلي، واللذين تجليا في خلوّه من دين القطاع العام، والفائض المستمر في ميزان المدفوعات، والعملة القوية. في حين تكمن مشكلة الاقتصاد اللبناني البنيوية الأساسية تكمن في ضعف إنتاجيته. فاليوم بعد خمسة وعشرين عاماً على انتهاء الحرب في العام 1990، وصل حجم الإنتاج للفرد (بأسعار فائتة) إلى أعلى بقليل ما كان عليه قبل عقود، أي في العام 1974.
ويحمل المعارضين للخيارات الاقتصادية السابقة بشدة على الطبقة الحاكمة اذ يعتبرونها المسؤولة اولاً واخيراً عن المصائب التي حلّت بالإقتصاد، ويقول يشوعي في هذا الإطار "من المفترض ان تكون الدورة الاقتصادية ضعف ما هي عليه اليوم، كما ان حجم الناتج المحلي يجب ان بقارب بالحد الأدنى حجم الدين. لكن السياسات التي اتبعت في السنوات السابقة خنقت الاقتصاد والبلد، وادت الى شح السيولة بشكل هائل يوم بعد يوم".
ويلفت يشوعي الى ان "واقع لبنان لا يحتمل اي دولار دين اضافي، كما ان هناك مبلغ 3 مليارات دولار لا يزال غير مستخدم من قروض سابقة، يدفع لبنان مقابله فوائد ما يشير الى حجم استهتار المسؤولين بمصالح المواطنين والمستثمرين والاقتصاد ككل". ويشير الى ان "اداء السنوات السابقة ادى الى مضاعفة ثروات المتمولين ومكافأة اصحاب المال الريعي، وجلد المستثمرين المنتجين عبر خلق تعقيدات يومية تحد من تقدمهم ومساهمتهم في خلق فرص عمل وتحقيق نمو اقتصادي".
كيف ننهض؟
يعلن العديد من المعنيين بالشأن الإقتصادي عن وجود خطط بحوزتهم تنهض بالإقتصاد، وهذه الخطط على اختلافها لا بد ان تتمحور حول هدفين اساسيين: وضع الاقتصاد اللبناني على طريق النمو المرتفع وتوزيع أفضل للدخل والثروة.
ويسلط هذان الهدفان الضوء على وجوب تركيز اي خطة نهضوية على الإجراءات التي تزيد من إنتاجية الاقتصاد اللبناني بشكل مستدام بالإضافة إلى الخطة الإصلاحية الضرورية للقطاع العام، الأمر الذي يتطلب ثلاثة إجراءات أساسية تتضمن توفير التعليم الرسمي ذي النوعية الجيدة والكلفة المنخفضة، إنشاء شبكة نقل واتصالات حديثة، إصلاح القطاع العام. ومن الضروري التركيز على معالجة مكامن الضعف في الاقتصاد اللبناني، والتي إذا تركت من دون حلول، قد تتسبّب بشل المعافاة الاقتصادية أو إضعافها بالحد الادنى. وتتم هذه المعالجة عبر إعادة تمويل دين القطاع العام بأسعار فائدة أدنى ولفترات أطول، وإعادة جدولة ديون القطاع الخاص للمصارف المشكوك في تحصيلها.
ولا يعوّل يشوعي على "اي خطط اقتصادية بوجود الطبقة نفسها التي اوصلت الاقتصاد الى الحضيض"، واعتبر ان "الافق مسدود امام الاقتصاد اللبناني طالما لا تضخ الاموال من المصرف المركزي الذي يعتبر منبع ومصدر المال".
ووفقاً ليشوعي، يكمن الحل للإقتصاد بإستخدام جزء ضئيل من ودائع المركزي، الغير مخصصة للإحتياطي الإلزامي او للإكتتابات، وتطبيق قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص الامر الذي سيفسح المجال بخلق فرص عمل وتحقيق نمو اقتصادي وتخفيض عجز الموازنة عبر تلزيم مشاريع الكهرباء والنفايات والنقل المشترك، وبالتالي الامور ستسير على خير ما يرام على الصعيد الإقتصادي".
قطاعات مترنّحة
لا يلام كل من يشكك بإنعكاس المؤتمرات الدولية الداعمة للإقتصاد اللبناني لا سيما في هذه الايام التي يكثر فيها الحديث عن افلاس البلد وشبه انهيار للقطاعات الانتاجية. واذ كان الجميع يعمل بإستمرار على تقاذف كرة المسؤولية فيما خص القطاع المالي، لا بد من السؤال عن الايجابيات التي تحملها هذه المؤتمرات على القطاعات الإنتاجية.
مما لا لبس فيه ان اي تحسّن في الاقتصاد سيحمل ايجابيات للقطاعات الإنتاجية، لكن من الضروري التشديد ان النهوض بالقطاعات الإنتاجية يتطلب خطط دقيقة وخاصة قد لا تكون على صلة مباشرة بمؤتمرات الدعم الدولية. وفي الواقع، سيساعد مؤتمر سيدر الدولة على تنشيط الاقتصاد عبر تأهيل البنى التحتية وخلق فرص عمل وتحسين معدلات النمو، لأنه برنامج استثماري اعماري وليس خطة متكاملة على صعيد القطاعات الانتاجية.
وتجدر الاشارة في هذا الإطار الى ان "الحكومة اللبنانية السابقة كانت قد اوكلت الى شركة "ماكنزي" اعداد دراسة حول الاقتراحات والتوصيات عن كيفية التعاطي مع هذه القطاعات المنتجة، واي قطاعات جديدة في الاقتصاد الجديد التي يمكن للبنان ان يركّز عليها بهدف تحقيق معدلات نمو مستدامة.
كادر
يوجد خطط بحوزة العديد من الاقتصاديين تنهض بالإقتصاد وتتمحور حول هدفين اساسيين: وضع الاقتصاد على طريق النمو المرتفع وتوزيع أفضل للدخل والثروة
يدل الأداء اللبناني الضعيف على كل الجبهات الاقتصادية عملياً منذ انتهاء الحرب، وعلى الرغم من الظروف العديدة المؤاتية، على وجود مشكلات في بنية الاقتصاد اللبناني
اي تحسّن في الاقتصاد سيحمل ايجابيات للقطاعات الإنتاجية، لكن النهوض بها يتطلب خطط دقيقة وخاصة قد لا تكون على صلة مباشرة بمؤتمرات الدعم الدولية