
يعول المتابعون لشؤون الاقتصاد اللبناني الى حد كبير على الحكومة المنوي تشكيلها، لا سيما ان رئيس الجمهور ميشال عون اكد النهوض الاقتصادي سيكون اولوية على اجندة الحكومة، التي تتكتسب ميزة خاصة اذ لطالما وصفت بحكومة العد الاولى اذ اعلن رئيس الجمهورية في مناسبات عديدة ان عهده سينطلق بعد اجراء الانتخابات النيابية.
دون شك، يشكل الواقع الاقتصادي تركة ثقيلة جدا سترثها الحكومة الجديدة عن سابقاتها، فمهمتها صعبة وسط ما ناله لبنان من حصة كبيرة من تداعيات العواصف الهابة في المنطقة، فالمؤشرات لا تبشّر بالخير، وخطوط الدفاع عن الاقتصاد في خطر، والقطاعات الاقتصادية تحتاج لسنوات لتعبّر خساراتها الكبيرة خلال السنوات الاخيرة. فكيف يمكن لهذه الحكومة معالجة هذه القنبلة الموقوتة قبل ان تنفجر في وجهها على شكل اضرابات عمالية وشعبية بدأت قبل تشكيلها؟
في الواقع، تكبّد الاقتصاد اللبناني خسائر مادية قدرت بالمليارات نتيجة التداعيات السلبية المباشرة والغير مباشرة لتأخير تشكيل الحكومة، ففي حين اتخذت معظم مؤشرات القطاع الحقيقي منحىً تنازلياً خلال الأشهر التسعة الأولى من العام 2018 بالمقارنة مع الفترة المماثلة من العام 2017. كما ارتبط التباطؤ المستمر في النمو الاقتصادي بحالة من الترقب والتريث شابت أوساط مستثمري القطاع الخاص الذين يتردّدون في الاستثمار في القطاعات الاقتصادية المختلفة في لبنان.
وترنّحت خلال عام 2018 مؤشرات الاقتصاد بين السلبية والايجابية، فمن أصل 11 مؤشراً للقطاع الحقيقي، ارتفعت 5 مؤشرات بينما تراجعت 6 خلال الأشهر التسعة الأولى الأول من العام 2018 بالمقارنة مع الفترة المماثلة من العام السابق.
ومن بين المؤشّرات التي سجّلت نمواً إيجابياً نذكر عدد المسافرين عبر مطار بيروت الذي سجل نمواً بنسبة 7.1%، والواردات (+4.7%)، والصادرات (+4.3%)، وعدد السياح (+3.9%)، وإنتاج الكهرباء (+1.5%). ومن المؤشرات التي سجلت نسب نمو سلبية نذكر مساحة رخص البناء الممنوحة (-23.0%)، وقيمة المبيعات العقارية (-16.8%)، وحجم البضائع في المرفأ (-7.1%)، وعدد مبيعات السيارات الجديدة (-6.6%)، وتسليمات الإسمنت (-4.7%)، وقيمة الشيكات المتقاصة (-1.2%).
تراجع خطير
كما عدّل صندوق النقد الدولي من توقعاته لنمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في لبنان للعام 2018 وذلك من 1.5% وفق توقعات آفاق الاقتصاد العالمي الصادر في شهر نيسان من هذا العام إلى 1% وفق توقعاته الأخيرة الصادرة في شهر تشرين الأول المنصرم. في موازاة ذلك، يتوقع الصندوق أن يسجل النمو الاقتصادي الحقيقي 1.4% في العام 2019 ومتوسط نسبته 2.3% خلال السنوات الخمس القادمة. تجدر الإشارة إلى أن مصرف يتوقع نمواً اقتصادياً بنسبة 2% في العام 2018، وذلك من نمو مقدّر بنسبة 2.5% في العام 2017.
هذا وتُظهر آخر الأرقام المنشورة من قبل وزارة المالية أن الدين العام الإجمالي بلغ 83,7 مليار دولار في نهاية آب 2018، أي بزيادة نسبتُها 5,2% مقارنةً مع كانون الأول 2017.
أما على صعيد التسليف، فقد سجّلت سنة 2018 أول تراجع في العقدين الماضيَيْن. ذاك أن التسليفات الممنوحة للقطاع الخاص تراجعت بقيمة 0,3 مليار دولار في الأشهر التسعة الأولى، بعدما كانت قد ازدادت بقيمة 1,3 مليار دولار في الفترة ذاتها من العام 2017 وبقيمة 2,2 مليار دولار في المتوسط خلال الفترة ذاتها من السنوات الخمس الماضية.
اجراءات ناجعة
لن تستطيع اي حكومة مهما كان طاقمها مداواة الاقتصاد اللبناني من تبعات التداعيات السلبية لأزمات البلد السياسية وحالات الفراغ المتواصلة بسرعة قياسية، لكن اضحى من المؤكد ان عليها اتخاذ مجموعة اجراءات تنقذ الاقتصاد من ازمته. ما يعني ان امام الحكومة الجديدة مهمات صعبة، قد تحد من صعوبتها ما تملك في جعبتها من ادوات مهمة تأتي في طليعتها خطة ماكنزي التي اعتبرت خارطة طريق جديدة للإقتصاد اللبناني، ومؤتمر سيدر الذي يعوّل عليه لضخ الاستثمارات في البلاد وخلق فرص عمل جديدة. لكن الجدير ذكره، ان تكريس دور خطّة ماكنزي في تحويل إقتصاد لبنان من إقتصاد شبه ريعي إلى إقتصاد مُنتج، قد يشوبه صعوبات اذ ان اجراءات كثيرة مطلوبة لدفع القطاعات الانتاجية قدماً قد لا تكون متوفرة في ظل الوضع المالي المأساوي للدوّلة اللبنانية .
كما أنّ توصيات مؤتمر "سيدر1" من رفع الضرائب، سحب الدعم عن السلع والخدمات، وخصخصة المرافق العامّة لإعادة التوازن المالي للدوّلة اللبنانية، قد تكون مستحيلة في ظل الواقع المأساوي الذي بات يعيشه المواطنين اللبنانيين نتيجة تآكل قدراتهم الشرائية وارتفاع منسوب الفقر ومعدلات البطالة.
ويسلط هذا الواقع الضوء على ضرورة البدء بمعالجة مشاكل اقتصادية خطيرة لم تعد خافية على احد عبر اتخاذ خطوات ضرورية لوقف تدهور المالية العامة منها فرض رسوم جمركية على كل البضائع المُستوردة نظراً إلى الدور السلبي لحجم الإستيراد اللبناني والذي من المُتوقّع أن يفوق العشرين مليار دولار أميركي نهاية العام 2018. كما من الضروري وقف التوظيف في القطاع العام وحصره بمجلس الخدمة المدنية على أن لا يتمّ توظيف بديل للمتقاعد إلّا بنسبة 3 إلى 1، ووقف نزف قطاع الكهرباء من خلال إشراك القطاع الخاص وذلك عبر تلزيم الإنتاج والتوزيع والجباية في هذا القطاع، حيث أثبتت التجارب أنّ التخبّط السياسي منع ويمنع وسيمنع أيَّ تطوير في هذا القطاع.
ويجب بدء التشدّد في جباية الضرائب، الفواتير والرسوم المُستحقّة للدولة اللبنانية. كون هذا الأمر يحتاج فقط إلى قرار بهدف تخفيض التهرّب الضريبي بنسبة 10 إلى 20% سنوياً ما يؤمّن للدولة اللبنانية مدخولاً بقيمة 400 إلى 800 مليون د.أ سنوياً.