بعد "البريكست" وخروج بريطانيا من القارة العجوز: هل ترتد أوروبا نحو الدولة القومية!؟
صادق قادة الدول ال27 الأعضاء في الاتحاد الأوروبى في 25 تشرين الثاني/ نوفمبر (2018) على اتفاق بريكست وكذلك على الإعلان الذى يحدد العلاقة مع المملكة المتحدة فى مرحلة ما بعد خروجها من الاتحاد.
وقالت الدول الأوروبية فى البيان الختامي لقمة بروكسل إن "المجلس الأوروبى يوافق على اتفاق انسحاب المملكة المتحدة وإيرلندا الشمالية من الاتحاد الأوروبى ومن الهيئة الأوروبية للطاقة النووية"، مؤكدة العمل على إرساء "أقرب علاقة ممكنة" مع لندن بعد بريكست.
وقال رئيس المجلس الأوروبى دونالد توسك "أقر الاتحاد الأوروبى اتفاقية الانسحاب، والإعلان السياسى بشأن العلاقات بين الاتحاد الأوروبى والمملكة المتحدة فى المستقبل".
كتب فرانسوا بروسو، المحلل السياسي في الصحيفة الكندية «لودوفروار»، عقب الاستفتاء التاريخي في بريطانيا، قائلًا: «تصويت البريطانيّين للخروج من الاتّحاد هو أشبه بقنبلة عنقوديّة، سوف تؤدّي إلى تغييرات على نطاق واسع»، في إشارة منه إلى التغيرات المتتالية، الغالب حدوثها عالمياً، على أثر قرار انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي.
في الواقع، إن وجهة النظر الجازمة ببدء ظهور «نظام عالمي جديد قيد التشكيل» لا تبدو مستبعدة، في ظل خروج بريطانيا من الكتلة الأوروبية، وصعود زخم أحزاب اليمين المتطرف، في عدد من البلدان الأوروبية العظمى.
وبما أن الأحداث لا تزال في بدايتها، فإنه من الصعب التكهن بمستقبل النظام العالمي الذي سيسود العالم، بعد خروج بريطانيا من الاتحاد.
العولمة توحد العالم
مباشرة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، فكر القادة الأوروبيون في طريقة لمنع تكرار المأساة، والحروب التي خلفت ملايين القتلى في ما بينهم. ومن ثم اقترح وزير الخارجية الفرنسي آنذاك، روبرت شومان، تأسيس الجمعية الأوروبية للفحم والصلب، عام 1950، وتم التوقيع على الاتفاق من قبل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، وبلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ، وبعدها انضمت بريطانيا عام 1956.
كان الغرض من إنشاء السوق المشتركة الحرة، الأولى من نوعها في العالم، هو جعل اندلاع حرب كبرى، بين الدول الأوروبية من جديد، أمراً مستحيلاً وليس فقط مستبعداً، إذ لا يعقل شن دولة الحرب، على دولة أخرى، واقتصادهما مشترك. ليتطور بعدها التحالف الأوروبي إلى اتحاد شبه متكامل، كما نراه اليوم.
وفي الفترة نفسها التي تأسست فيها نواة الاتحاد الأوروبي، كانت الولايات المتحدة الأميركية، المنتصر الأكبر في الحرب العالمية الثانية، تسعى إلى قيادة العالم، بزعامتها نحو نظام «عولمة ليبرالية»، بزعم إبعاد شبح الحروب بين الدول، كما حدث في الحربين العالميتين الأولى والثانية، ومن ثم نشأت، بإيعاز من أميركا وأوروبا، مجموعة من المنظمات الدولية، الحاكمة لسياسات واقتصاديات العالم، وأهمها الأمم المتحدة عام 1945، والبنك الدولي عام 1944، وصندوق النقد الدولي عام 1945، ومنظمة التجارة العالمية عام 1995.
بموجب عمل هذه المنظمات الدولية، بالإضافة إلى الاتفاقيات العالمية، انخرطت جميع دول العالم تدريجيًا، في سياق عولمة اقتصادية ثقافية اجتماعية، وتحت ضغطها، تخلت غالبية دول العالم عن جزء من سيادتها المحلية، لمصلحة النظام العالمي.
صدمة عالمية
شكل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي صدمة عالمية، إذ في الوقت الذي ساد فيه اعتقاد راسخ، بأن العالم ينحو نحو مزيد من التوحد والانفتاح، فاجأت إحدى أعرق الديموقراطيات العالمية جميع الدول، باستعدادها للتضحية بالخسائر الاقتصادية، من أجل الانتصار لقوميتها.
ووصفت فورين بوليسي هذا الحدث التاريخي ببداية «سقوط قطع الدومينو»، السقوط المؤثر مستقبلًا، وفي القريب، على مستقبل بريطانيا والكتلة الأوروبية الهشة، والعالم.
وكان من نتائج إعلان الاستفتاء البريطاني في حزيران 2016، مسارعة إسكتلندا وإيرلندا إلى التلميح بإمكانية تنظيم استفتاء آخر، للانفصال عن بريطانيا هي الأخرى، والانضمام إلى كتلة الاتحاد الأوروبي، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ ظهرت أصوات من اليمين المتطرف، في فرنسا وهولندا وألمانيا وإيطاليا، تنادي بإجراء استفتاءات أخرى، حول البقاء في كتلة الاتحاد الأوروبي من عدمه، على غرار بريطانيا.
وقد عبرت عن هذا السياق ماري لوبان، زعيمة الحزب اليميني المتطرف في فرنسا، في كلمتها أسفل قبة المفوضية الأوروبية، مبدية سعادتها بانفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، وداعية جميع دول الاتحاد إلى الحذو حذوها. مضيفة: «الربيع الشعبي في أوروبا بات حتمياً». ما ينبئ عن احتمال تفكك الاتحاد الأوروبي، أحد ركائز نظام العولمة العالمي الرئيسة، وبالتالي العودة بالتاريخ إلى زمن ما قبل الحرب العالمية الثانية، حيث تسود الدولة القومية.
ولا يحتاج المرء كثيراً للتنبؤ بالمستقبل، إذا ما تراجعت المنظومة الليبرالية لمصلحة القومية، لأن منطق الأمور، كما يبدو، يقول إن الصراعات ستتجدد، على الأغلب، بين الدول مرة أخرى، وسيتقهقر مستوى التنمية في غالبية دول العالم، كما كان الوضع قبل نصف قرن.
الطريق الثانية
قد تبدو الطريق الأولى حاملةا لنظرة تشاؤمية مبالغ فيها، بالنظر إلى أن بريطانيا لم تكن مندمجة داخل الاتحاد الأوروبي بالشكل الأمثل، بل امتلكت صفة العضوية الاستثنائية، بحيث لا تتبنى كل التزامات المفوضية الأوروبية، حتى أنها لم تضطر إلى تغيير عملتها المحلية، الجنيه الإسترليني، إلى العملة الأوروبية، اليورو، وبالتالي فإن خروجها لن يغير من الوضع كثيرًا، وربما يمكن التعامل معها على شكل علاقات ثنائية، مع الاتحاد الأوروبي، كالحال مع سويسرا.
بل إن بعض المحللين يصفون خروج بريطانيا بالأمر الإيجابي، إذ لطالما كانت بريطانيا تضع العصا في العجلة، كما يقال، من أجل منع تمرير مجموعة من قرارات المفوضية الأوروبية، بهدف المزيد من التوحد، كتوحيد القوانين، والتدخل في السياسات الاقتصادية لدول الاتحاد، وبعد أن خرجت بريطانيا من قبة البرلمان الأوروبي، فستكون الساحة مفتوحة كما يبدو، للوصول بالاتحاد الأوروبي إلى التوحد الشامل.
علاوة على أن معظم شعوب دول الاتحاد الأوروبي تؤيد البقاء داخل الكتلة الأوروبية، وإن برزت أصوات يمينية في بعض البلدان تدعو إلى الانفصال، ويمكن أن يتعزز هذا الشعور المؤيد للاتحاد الأوروبي، إذا ما توالت التداعيات السلبية على بريطانيا، إثر مغادرتها الكتلة الأوروبية، وقد بدأت بالفعل تظهر هذه التداعيات على مستوى الاقتصاد.
وحدها الأيام المقبلة ستخبرنا إلى أين يتجه العالم، هل إذن إلى مزيد من العولمة والانفتاح، أم إلى الارتداد نحو الوراء والتشبث بنزعة القومية؟