
القطاع الحقيقي للاقتصاد اللبناني في وهن مستمر، إنما القطاع المصرفي لا يزال سليماً والقطاع النقدي لا يزال مدعوماً بعناصر حماية لافتة. على صعيد القطاع الحقيقي، فإن النمو الاقتصادي في لبنان يسير بوتيرة بطيئة بنسبة تقل عن 2٪، بالمقارنة مع متوسط نمو طويل الأجل بنسبة 5٪ ومقارنةً بمعدل نمو سنوي بلغ 9٪ خلال فترة الفورة الاقتصادية للبنان، أي خلال النصف الثاني من العقد المنصرم. أما الاستثمار فهو يتقلص بالقيم الحقيقية، مع تأجيل للقرارات الاستثمارية الكبرى، بحيث أن المستثمرين الراغبين في إنشاء فندق أو افتتاح مطعم أو مصنع يؤجلون ببساطة قراراتهم الاستثمارية، كما يتضح من خلال تراجع التسليفات المصرفية الممنوحة للقطاع الخاص، وذلك وفق خلاصة التقرير الفصلي الثالث لبنك عودة.
يضيف التقريران أزمة البطالة في لبنان تستمر في التصاعد مع تضاعف نسبة البطالة على مدى نصف العقد الماضي لتصل إلى أكثر من 20٪ اليوم في ظل غياب أي خلقٍ لفرص عمل جديدة لثلاثين ألف لبناني ينضمون إلى القوى العاملة كل عام. أما نسب التضخم فاتخذت منحىً تصاعدياً من معدل قريب إلى الصفر في العام 2016 إلى 4.5% في العام الماضي وإلى حوالي 7% هذا العام. مع الإشارة إلى أن ارتفاع نسب التضخم هذا العام يرتبط بمفاعيل إقرار سلسلة الرتب والرواتب لموظفي القطاع العام إلى جانب الإجراءات الضريبية الأخيرة وتأثيرها على رسوم التعليم، ناهيك عن انعكاس ارتفاع أسعار النفط على تكلفة النقل. كل هذا يشير إلى أن الاقتصاد الوطني اقترب من وضعية الركود التضخمي (أي ركود بالترافق مع تضخم).
على الصعيد النقدي، فإن عناصر الحماية أو خطوط الدفاع في لبنان لا تزال بمكانة جيّدة على الرغم من وهن الاقتصاد الحقيقي. إذ يتمثّل خط الدفاع الأول في صدّ التحويلات من الليرة اللبنانية إلى العملات الأجنبية (أو المخاطر النقدية)، في حين أن خط الدفاع الثاني يتمثل في صدّ أي خروج للودائع المحلية إلى الخارج (أو المخاطر المالية). وبالنسبة لخط الدفاع الأول، فإن الموجودات الخارجية لدى مصرف لبنان تبلغ اليوم 43 مليار دولار، أي ما يعادل 82٪ من الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه في ظل فترات الأزمات السابقة، أي بعيد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في العام 2005 والحرب الإسرائيلية في العام 2006، تم تحويل ما يقارب 30٪ من الودائع بالليرة اللبنانية إلى العملات الأجنبية، في حين أن نسبة تغطية الكتلة النقدية بالليرة في لبنان تصل اليوم إلى 82% وهي تعادل ضعف متوسط تغطية الدول ذات التصنيف السيادي المماثل للبنان. أما بالنسبة لخط الدفاع الثاني، فتمثل السيولة الأولية لدى المصارف بالعملات الأجنبية أكثر من 50٪ من الودائع بالعملات الأجنبية. أي أنه في حال رغب نصف المودعين في مغادرة لبنان ونقل أموالهم إلى الخارج، فإن المصارف اللبنانية تملك سيولة كافية لتلبية احتياجات هؤلاء المودعين. مع الأخذ بعين الاعتبار أنه خلال أزمات 2005 و2006، تم خروج ما يناهز 4٪ فقط كحد أقصى من قاعدة الودائع المحلية إلى الخارج. وبعبارة أخرى، في حال تكررت خضات مماثلة، يبقى لبنان، على الأقل مالياً ونقدياً، متماسكاً إلى حدٍّ بعيد.
أخيراً، إن المسار الطويل الأجل للاقتصاد اللبناني وللأسواق يعزز قناعتنا بأن الاقتصاد محكوم بالتقلبية، حيث لا ينبغي فقدان الأمل عندما تسوء الظروف كما أنه لا داعي للتفاؤل المفرط حين تتحسن المعطيات. فقد ثبُت أنه لا مجال للتفاؤل المطلق ولا للتشاؤم الدائم في ظل بيئة اقتصادية محكومة بالتقلبية بشكل عام. هذا ومن المهم التذكير هنا بأن الرهانات الطويلة الأجل على الأسواق اللبنانية أثبتت أنها صائبة حتى الآن. في الواقع، إن المردودية الفعلية التي تحققت كانت جاذبة بالمقارنة مع علاوات المخاطر المنطوية عليها. فمنذ العام 1993، استطاع المستثمر الذي آثر تحمل المخاطر السيادية اللبنانية أن يحقق مردوداً سنوياً وسطياً على سندات الخزينة اللبنانية بمعدل 11% وعلى سندات اليوروبوندز اللبنانية بمعدل 8%. ولا شك في أن هذه المردودية جاذبة، بالنسبة إلى تلك المسجلة في الأسواق الناشئة بشكل عام خلال هذه الفترة، في سوق لبنانية لم تشهد أي تدهور في سعر صرف العملة الوطنية أو أي تعثر في سداد الديون السيادية أكانت بالليرة اللبنانية أو بالعملات الأجنبية على المدى الطويل".