.jpg)
على رغم أن اللامركزية الإدارية مثّلت إتجاها عالميا واسعا منذ أوائل السبعينات، لا يزال تطبيقها عصياً في لبنان رغم ما يحمله غيابها من آثار سلبية على المواطن من حيث تقليص عملية المساءلة وابعاد المواطنين عن السياسات الحكومية وعن الدولة نفسها.
منذ اتفاق الطائف عام 1989، وحلم "اللامركزية" يدغدغ عقول اللبنانيين دون ان يجد طريقه الى ارض الواقع. ولعلّ اهمية اللامركزية تكمن في قيام جوهرها على عدم إتخاذ كل القرارات و الأعمال المتعلقة بالشؤون العامة من قبل السياسيين وعلى توزع السلطات و الصلاحيات على كل أنحاء البلاد. وكان رئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان قد أكد في كلمةٍ القاها خلال إطلاق مشروع قانون اللامركزية الادارية، ان "قانون تطبيق اللامركزية الإدارية في لبنان يرتدي الاهمية نفسها لقانوني الإنتخاب والموازنة كونه يطال قانون الانتخاب ويتداخل معه ويطال الموازنة لجهة تأمين متطلبات الادارات ومتطلبات الناس".
إدراك أهمية اللامركزية العميق بين اللبنانيين، يثير الإستغراب بشكل كبير من عدم تطبيقها حتى يومنا هذا. وفقاً لرئيس جمعية يوتوبيا ورئيس "مجلس انماء طرابلس" شادي نشّابة " تقف اسباب سياسية خلف عدم تطبيق اللامركزية الإدارية في لبنان حتى اليوم لا سيما أن الطبقة السياسية في لبنان مستفيدة من الواقع المركزي حيث تصبح حصرية الخدمات بالوزارات المعنية وعملية السيطرة على مركز النفوذ وعملية الفساد أكثر راحة من خلال عدم إعطاء دور للسلطة المحلية بالتحرك". وشدد على ان "عدم تطبيق اللامركزيّة لا يعزّز الفساد المالي فقط، إنما الإداري وشتى أنواع الفساد الأخرى".
وفي الواقع يواجه تطبيق اللامركزية جملة تحديات الى جانب عدم وجود ارادة سياسية واضحة في الدولة للقيام بحركة تغيير، أبرزها ارتباط اللامركزية الادارية بشكل جذري بمسألة الحريات، وفرضها الاعتراف بممارسة الصلاحيات المحلية في إطار من الحيز الجغرافي ما يسلّط الضوء على الاستعداد لإعطاء مجالس الاقضية ولاحقاً مجالس المحافظات صلاحيات ذات بعد اقتصادي. كما ان افتراض اللامركزيّة كنتاج لتطور الديمقراطية يطرح التساؤل عن امكانية التوفيق بين اللامركزية كأداة لتطوير الديمقراطية المحلية وتراجع الديمقراطية على المستوى الوطني لصالح تكريس فدرالية مذهبية. ولا بد من وضع علامة استفهام كبيرة على نجاح تطبيق اللامركزية كأداة للتنمية المناطقية في ظل نظام اقتصادي ريعي لا ينتج سوى الخدمات مع تمركز حاد للنشاطات الاقتصادية في بيروت وضواحيها.
أضحى تطبيق اللامركزية الادارية في لبنان ضرورة من اجل تسهيل حياة المواطنين وتحسين الخدمات المقدمة اليهم بالافساح في المجال للجماعات المحلية للقيام للتخطيط والتنفيذ الفعال لمشاريع تنموية، نظرا الى معرفتهم بحاجات مناطقهم ومتطلباتها. وفي حال طُبقت، ستنعكس نتائج اللامركزية إيجابا على مختلف فئات الاجتماعية، البشرية، المهنية، الثقافية والسياسة. وأشار نشّابة في هذا الإطار إلى أنّ "اللامركزية الإدارية تؤدي إلى تركيز إهتمام الموظفين العامين على مطالب الشعب الحقيقية و ليس على إملاءات النخبة الحاكمة المركزية و أوامرها". وشدّد على أن "اللامركزية تساعد على تقريب القرارات العامة من الناس و تبعدهم من السياسيين، كون المواطنين قادرين على فهم القضايا التي تكون مطروحة للمناقشة، وهم بطبيعة الحال ليسوا بعيدين أو غائبين عن الساحة السياسية المحلية كما هي الحال غالبا على المستوى الوطني العام".
وتعتبر اللامركزية وسيلة فعّالة لزيادة مساءلة الشعب للحكومة و ذلك لثلاثة أسباب هي :
1- سهولة تحديد الأشخاص المسؤولين عن الأداء الإداري على المستوى المحلي وذلك بخلاف الحكومة المركزية بحجمها الواسع و بنيتها المعقدة.
2- سهولة تحقيق الشفافية في الإدارة على مستوى الحكم المحلي ما يمكّن المواطنين من معرفة كل ما يتعلق بعمل الإدارة بشكل دقيق، و خصوصا ماهية الأعمال التي تقوم بها أو لا تقوم بها
3- تعزيز قدرة المواطنين على اختيار مسؤوليهم المحلّيين بناء على إدراكهم الواضح لأولوياتهم ومصالحهم، وذلك نظراً لما تمتاز به الشؤون المطروحة على المستوى الإداري المحلي من بساطة وقابلية للفهم من قبل جميع المواطنين
وتساهم اللامركزية الإدارية في عدم تمركز رأس المال والإستثمار في العاصمة و بالتالي تساعد على اللامركزية الإقتصادية. ولفت نشّابة إلى أن "اللامركزيّة تعطي الشعب دورا أكبر في عملية صنع القرار من النظام المركزي، وتتطلّب توافقاً وطنياً على خطط التنمية الوطنية أكثر إتساعاً مما تطلبه الأنظمة المركزية التي يصنع القرار فيها بعض النخب في العاصمة، كما تسمح بإعتماد برنامج للتنمية الوطنية أكثر عقلانية و صقلا نظرا إلى إختلاف الحاجات و الفرص بإختلاف المناطق، وبالتالي فإنها تنحو إلى تشجيع النمو المتوازن و المتكافىء".
ومن شأن إعتماد اللامركزية الإدارية تفادي مشكلة الجمود الإداري، إذ أن وجود هيئة واحدة في البلاد لصنع القرار يجعل من عملية صنع القرار عملية بطيئة جدا وقد تتعطل تماما أحيانا.
أما على صعيد التمثيل الديمقراطي، فإن اعتماد اللامركزية هو الآلية الرئيسية في الأنظمة الديمقراطية التحديثية التي تحافظ على دور الشعب في صنع القرار، بحيث يؤسس الحكم المحلي لنظام تمثيلي يتميز ببقائه على مسافة قريبة من الناخبين. واعتبر نشّابة في هذا الإطار أنّ "الحكم المحلي يعزّز الإنسجام والتوافق الإجتماعي، اذ يتيح للسكان المحليين و ممثليهم فرصة إكتساب الخبرة في مجال حل الأزمات والصراعات في إطار مجتمع محلي يمكن إدارته".
وفي ردٍ على سؤال، رأى نشّابة أن "تطبيق اللامركزية الإدارية قد يواكبه سلبيات في حال لم تنفذ اللامركزية بشكل منظم و صحيح". وقال: "إن لم يتم تمكين البلديات وبناء قدراتها لكي تصبح جاهزة لممارسة دورها الجديد عندها تصبح اللامركزية الإدارية صعبة التنفيذ و تصبح تطبق بشكل سلبي. لذا في حال تم إقرار قانون اللامركزية الإدارية يجب إدخال فيه مرحلة بناء قدرات و تمكين البلديات كفترة إنتقالية". رأي نشّابة هذا، يسلّط الضوء على قدرة المسؤولين اللبنانيين على تطبيق نظام لامركزيّة ملائمة لطبيعة البيئة اللبنانية المتشعّبة والصعبة، وقدرتها على مراجعته بشكل مستمر لسد اي ثغرات تظهر ليأتي منسجماً مع الأوضاع السياسية، والإجتماعية والإقتصادية.
على رغم ان هناك توافق بين معظم القوى السياسية على وجود خللٍ في الواقع الاداري، سواء من حيث الشلل او البطء في تلبية حاجات المواطنين، يختلف منسوب الرغبة لدى اللبنانيين في تطبيق اللامركزية الإدارية بين فريق وآخر، سواءً فرداً كان هذا الفريق ام طرفاً سياسياً ام فئة إجتماعية. ليبقى السؤال، هل تطبيق اللامركزية أمراً ممكناً في لبنان في ظل الواقع والطاقم السياسي الموجود في البلاد؟ اعتبر نشّابة إنّ "الطاقم السياسي أصبح في مرحلة لا يتمكن فيها من الدفاع كثيرا عن المركزية الإدارية و خصوصا الإهمال و التهميش الحاصل في المناطق". واذ شدّد على ان " التيارات السياسية أصبحت مجبرة بتنفيذ اللامركزية الإدارية، اكّد ان "قانون اللامركزية سوف يكون على قياسهم بطريقة بقاء السيطرة للأحزاب المركزية بمكان ما".