
بات التشدّد في حماية المال العام أمراً ملحاً ومطلوباً بشدة من الدولة اللبنانية، في ظل المحاولات المستمرة لخفض الإنفاق الذي ارتفع منذ عام 2005 إلى عام 2016 بنسبة قاربت 120%، فوصل الإنفاق العام نهاية 2016 إلى ما يقارب 14.9 مليار دولار، في الوقت الذي لحظت فيه موازنة عام 2017 إنفاقاً عاماً قارب الـ17.6 مليار دولار، وأنذرت موازنة عام 2018 بخطر كبير يهدد الاقتصاد مع ارتفاع متفاقم للدين العام.
ووفقاً للدكتور المحاضر في الجامعة اللبنانية عصام اسماعيل "تقتضي حماية المال العام ألا تهادن أو تتهاون الدولة في أقل مخالفة لها طابع مالي أو تتضمن هدراً للثروة الوطنية أو اعتداء عليها أياً كان الفاعل وموقعه الرسمي أو الخاص، وبهذه الحماية نؤمن الاستقرار المالي والاجتماعي والنقدي، ومن ثم السياسي.
وشدّد على أن "حماية المال العام لا تكتمل إلا إذا رافقتها إجراءات تمنع هدر الأموال النقدية التي تتحصل من الأملاك والمرافق العامة، إذ إن الفساد في لبنان لا يأخذ صورة اختلاس المال العام وإنما يتمثل بالهدر الفاضح في المال العام".
وعدّد اسماعيل سلسلة من التدابير التي قد تسهم في منع الهدر وترشيد الإنفاق، ومنها:
1- وقف الدراسات والاستشارات: حيث يقدم معظم الوزراء والمؤسسات العامة على تكليف شركات بإعداد دراسات حول تنفيذ مشروع معين، وتكلف هذه الدراسات مبالغ كبيرة جداً. وغالباً لا تنفذ هذه الدراسات وإنما تهمل بحيث يأتي كل وزير ويكلّف شركة بإعداد دراسة ويهمل دراسة سلفه. ولعل أكثر القطاعات التي أنفقت مبالغ كبيرة على الدراسات المتعلقة بها هي: قطاع الكهرباء، قطاع النفايات الصلبة ..
2- الرقابة على الصفقات العمومية: بحيث يقتضي منح إدارة المناقصات صلاحية التدقيق في المناقصات كافة والمزايدات لناحية معقولية الأسعار المطروحة، حيث أصبح من الثابت أن المناقصات واستدراج العروض هي وسيلة لإرساء الصفقة على أفضل العروض المقدمة وهي دائماً تكون عروضاً مرتفعة القيمة وغير مناسبة مالياً. وهنا نقترح أن تخضع للرقابة على صحة الأسعار الصفقات العمومية كافة سواء أجرتها إدارات أو مؤسسات عامة أو بلديات أو أشخاص من القانون الخاص مكلفة بإدارة مرفق عام (شركات الخليوي) لأن كلفة الصفقة ستتحملها الخزينة العامة.
3- التوقف عن منح ترخيص باستثمار الأملاك العامة بطريقة المناقصة أو المزايدة لأنها تلزم الإدارة بأحد العارضين المشاركين بالرغم من قناعة الإدارة بعدم جدية العروض المقدّمة بحيث تجد أنها مضطرة لقبول العرض الأفضل بين عروض هي جميعها غير ملائمة للمصلحة العامة، لذا يكون من الأفضل عدم اللجوء إلى المزايدة من أجل اختيار شخص للمساهمة في تسيير مصلحة عامة، لأنه ومن طريق المزايدة تفيد الإدارة نفسها سلفاً باختيار من يعرض زيادة في الأسعار ولو ضئيلة جداً وإن لم تتوفر فيه سائر الضمانات التي تكفل حسن سير المصلحة العامة التي سيوكل إليها أمر المساهمة فيها.
4- وقف الإشراف الخاص على تنفيذ المشاريع: حيث تعمد الإدارات والمؤسسات العامة على تكليف شركة استشارية للإشراف على تنفيذ شركة خاصة لمشروع ما. وتتقاضى شركات الإشراف مبالغ كبيرة لقاء أدائها لمهمتها، وتلجأ الإدارات العامة إلى الاستعانة بالاستشاري بحجة أنه ليست لديها القدرة على مراقبة تنفيذ المشاريع. ولقد أثبتت التجارب أن شركات الإشراف لا تؤدي دوراً فاعلاً في تحسين أداء شركات التنفيذ وخير دليل تقارير التفتيش المركزي عن سوء الإشراف على تنفيذ مشاريع في قطاع الاتصالات.
5- وقف التعاقد مع شركات الخدمات: بحجة وقف التوظيف في الإدارات والمؤسسات العامة تقدم هذه الإدارات على التعاقد مع شركات خاصة لتوفير هذه الخدمات التي يؤديها عادة الأجراء، بحيث تسدّد الإدارة أجر هذا العامل مضافاً إليه مصاريف وأرباح الشركة. وللعلم أن توظيف أفراد كأجراء لتأدية خدمات لن يكلف الدولة أعباء طبابة ونهاية خدمة لأن هذا الأجير سواء أكان في الدولة أو في الشركة الخاصة فإنه مسجل في الضمان الإجتماعي وسيتحمل الضمان أعباء طبابته وتعويض نهاية خدمته. ولهذا فإن توظيف الأجراء وفق الحاجة وبمراقبة مجلس الخدمة المدنية سينهي التعاقد مع مئات شركات الخدمات التي تحقق أرباحاً كبيرة من القطاع العام.
6- الاستغناء عن استئجار الأبنية: إن الإدارات والمؤسسات العامة والبلديات تستأجر آلاف المباني بأجور مرتفعة مع أنها تملك العقارات القابلة للبناء أو تستطيع شراء مبان بقروض مصرفية ميسرة أسوة بالأفراد.
7- إلغاء مؤسسات عامة: يوجد في لبنان أكثر من مئة مؤسسة عامة، منها عدد كبير غير منتج، ومنها من لا يؤدي دوره بفاعلية، بحيث يكون من المناسب إلغاء المؤسسات التي لا جدوى منها وتغيير مجالس إدارة مؤسسات فشلت في تأدية مهامها (مثل: مؤسسة كهرباء لبنان والمصلحة الوطنية لنهر الليطاني وبعض إدارة المؤسسات العامة الإستثمارية للمياه والصرف الصحي ...).
8- إلغاء البلديات: يضم لبنان أكثر من ألف بلدية ومعظمها بلديات صغيرة، وقد تبين فشل معظم هذه البلديات في تحقيق التنمية المطلوبة ما يدفع إلى السؤال حول جدوى وجود بلديات تستوفي رسوم وضرائب وعائدات مالية كبيرة ولا تسهم في تحقيق التنمية ولا تشارك في خفض كلفة الدين العام، ما يعني أن مئات المليارات تهدر سنوياً على العمل البلدي غير المنتج.
9- خفض النفقات غير المنتجة: تفرض المديونية على الإدارات العامة أن تقلص الإنفاق غير المجدي على التجهيزات غير الداخلة في تحقيق الغاية الأساسية للإدارة، أو الإنفاق على المهرجانات الممولة من وزارة السياحة والجمعيات الخيرية الممولة من وزارة الشؤون الإجتماعية والرياضية الممولة من وزارة الشباب والرياضة وجمعيات التعليم شبه المجاني الممولة من وزارة التربية والتعليم العالي. إن وقف تمويل هذه المشاريع الخاصة هو واجب وطني لأنها أموال تنفق في غير محلها.
10- إلغاء الصناديق الخاصة والمخصّصات: توجد في بعض الوزارات صناديق تودع فيها أموال تكون بتصرف الوزير ولا تدخل في الموازنة العامة، كما توجد لبعض الوزارات والإدارات العامة مخصّصات مرتفعة. لهذا يقتضي إلغاء هذه الصناديق وتحويل عائداتها إلى الخزينة العامة، وكذلك تخفيض المخصصات أو إلغاءها كمرحلة انتقالية لخفض الدين العام.
11- إخضاع مرفأ بيروت وكازينو لبنان وشركة إدارة واستثمار منشآت النفط للإدارة المباشرة للدولة اللبنانية بواسطة الوزارات المختصة، وذلك بعد أن ثبت حجم الهدر في هذه المرافق الثلاثة.
12- تخفيض حجم المشاركة في المؤتمرات الخارجية وحصرها في المؤتمرات ذات الأهمية، وإلغاء تكليف موظفي الخارجية من السلكين الدبلوماسي والإداري عبر أوامر مهمة خارجية والتي يتقاضى عنها الموظف تعويضات يومية.
واعتبر اسماعيل أن تطبيق معظم الأفكار المطروحة يمكن أن يتم بموجب تعديل بعض مواد قانون الموازنة العامة ثم عبر إرادة وطنية تريد فعلاً خفض الدين العام وتحقيق عائدات للخزينة العامة.