العقوبات الغربية على روسيا . .
نتائج وتداعيات الأزمة الأوكرانية
ينظر تاريخياً، وخاصة ما بعد فترة الحرب العالمية الثانية، أواخر أربعينات ومطلع خمسينات القرن الماضي، إلى العقوبات الاقتصادية والسياسية، التي تتخذها دولة أو مجموعة دول بحق دولة أخرى، على أنها محاولة لتغيير نهج هذه الدولة، أو ثنيها عن خطوات اتخذتها وصولاً إلى محاولة تغيير السلطة فيها .
وتتأثر هذه العقوبات المتخذة في طبيعة الدولة المعاقبة، وقدرتها الوطنية، كذلك شبكة علاقاتها الدولية أيضاً ولذلك تختلف طبيعة هذه الإجراءات وتأثيراتها من دولة إلى أخرى .
في الوقت الذي تزداد فيه العلاقات، تشابكاً بين روسيا والغرب عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً يتراجع ما اصطلح على تسميته الحرب الباردة مطلع خمسينات القرن الماضي، وحتى سنوات مضت، وخاصة بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، وانهيار المنظومة الاشتراكية في دول شرق أوروبا وتبعاتهما .
وفي هذا السياق، ينظر باهتمام إلى العقوبات التي اتخذتها الولايات المتحدة والدول الأوروبية مؤخراً بحق روسيا على خلفية الأزمة الأوكرانية، التي تشير إلى العديد من المسائل المهمة، بدءاً من طبيعة هذه العقوبات، مروراً بمدى تأثيرها، وانتهاء بحجم التوافق بين الدول المشاركة في اتخاذ هذه الإجراءات العقابية .
كما ينظر إليها وسط تساؤلات العديد من المسؤولين الروس والغربيين، عما إذا كانت هذه العقوبات، تمثل عودة لمرحلة الحرب الباردة، وسياسة الستار الحديدي، التي فرضها الغرب ضد الاتحاد السوفييتي .
وقد شملت العقوبات الأميركية العديد من المسؤولين الروس، و17 شركة روسية ترتبط بالكرملين، وتضمنت تجميد الأصول المالية وعدم منح تأشيرات دخول إلى الأراضي الأميركية، إضافة إلى منع تصدير التكنولوجيا التي يمكن استخدامها في الصناعات العسكرية، وصولاً إلى إبطاء الاستثمارات المتدفقة على روسيا، واستهداف المصارف الروسية وتعاملاتها، و"استبعاد" روسيا من مجموعة الثماني للدول الصناعية الكبرى . . الخ .
وفي الوقت الذي "تماهت" فيه الدول الأوروبية، مع سياسة العقوبات الأميركية، فإنها أحجمت عن اتخاذ الإجراءات الأمريكية نفسها، كذلك تركت مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى في اجتماعها الأخير الباب مفتوحاً أمام كل دولة من دولها لتنفيذ الإجراءات العقابية التي تراها مناسبة . وردت روسيا على هذه العقوبات، بإعلان وزير خارجيتها سيرجي لافروف رفضه العقوبات الأميركية - الأوروبية من حيث المبدأ لأنها "تتعارض مع التفكير السليم"، وشدد نائبه سيرجي ريابكوف، على أنه: "لا يحق لأحد أن يتحدث مع روسيا بلغة العقوبات، فالإملاءات وتوجيه الإنذارات سترتد على أصحابها" . مذكراً بأن هذا التوجه، يشكل عودة إلى الحرب الباردة . في الوقت الذي قطع فيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الاتصالات الهاتفية "شبه اليومية" مع نظيره الأمريكي باراك أوباما .
نشير في هذا السياق إلى تصريح مساعد وزير الخزانة الأميركية السابق بول روبرتس، الذي استخف بالعقوبات الأميركية قائلاً: "إنها ليست سوى دعاية لا مبرر لها والرئيس أوباما اعترف بنفسه بأنه ليس لها أي تأثير"، محذراً في الوقت نفسه من تداعياتها، ومن أنها تشجع موسكو على اتخاذ إجراءات جوابية .
إذ تمثل شبكة العلاقات الدولية القائمة، مجالاً ضاغطاً على الدول جميعها، وفي هذا الإطار تبرز الردود الروسية الممكنة، ومن ضمنها توقف روسيا عن استخدام الدولار الأمريكي كعملة احتياطية وكوسيلة لتسوية المدفوعات الدولية . كذلك إزعاج الأمريكيين، الذين تمر40 بالمئة من إمدادات قواتهم، وقوات حلف الناتو في أفغانستان عبر الأراضي الروسية . فضلاً عن اهتمام الأميركيين أولاً بقضاياهم الوطنية "برنامج الرعاية الصحية، البرامج الاجتماعية، القضايا الاقتصادية الوطنية والخاصة . . الخ" إضافة إلى التباينات والتعارضات في الكونغرس الأميركي، بين الديمقراطيين والجمهوريين، باعتبار هذه القضايا تمثل أولوية للمواطن الأمريكي، مقارنة بالمسائل الدولية، على أهميتها وتبعاتها .
أما الأوروبيون، فإن موضوع استيراد الغاز الطبيعي الروسي، يمثل هاجساً كبيراً وأساسياً لهم، ويذكرهم بأزمة كانون الثاني عام ،2006 وأزمة كانون الثاني عام 2009 . فضلاً عن الحجم الكبير للعلاقات الاقتصادية الأوروبية - الروسية وحجم التبادل التجاري بين الجانبين، وغيرها من تعقيدات الوشائج المختلفة القائمة بينهما .
في الوقت الذي يدرك فيه المسؤولون الأميركيون والأوروبيون تنوع العلاقات الروسية - الدولية وخاصة موقع روسيا المهم في العديد من الروابط والتكتلات القارية والدولية (منظمة شنغهاي للتعاون، مجموعة بريكس الدولية . . الخ) ودورها المتصاعد دولياً أيضاً .
مرحلة جديدة في العلاقات الدولية القائمة، تمثل الأزمة الأوكرانية "لافتتها"، والتوازنات الدولية وأدوار الدول الرئيسية العالمية جوهرها الحقيقي . وتؤشر إلى أن أفول الأحادية القطبية، وبدء مرحلة التعددية القطبية، تعيق إمكانية العودة للحرب الباردة، إلا أنها تظهر في الوقت نفسه، حجم التباينات والتعارضات الدولية، على اختلافها، الراهنة والمستقبلية القريبة أيضاً .
يرى الغرب أن التعاطي الروسي مع الأزمة الأوكرانية، هو تعامل سلبي، يفترض عدم السماح به أو تكراره، في الوقت الذي تؤكد فيه موسكو، أن أمنها القومي، وحقوق الأقليات الروسية في الفضاء السوفييتي السابق خط أحمر .
فهل تعكس هذه التباينات والمواقف المتعارضة لدول كبرى وعظمى نفسها على هذه العقوبات وتداعياتها؟ وهل يستعمل "الدب الروسي" إمكاناته لإفشالها؟ هذا ما ستظهره الأسابيع القليلة المقبلة، ومن ضمنها تطورات الأزمة الأوكرانية وتبعاتها أيضاً .
في الوقت الذي يعاين فيه العالم تطورات الأزمة الأوكرانية، يدرس المستثمرون والزعماء سيناريوهات تداعيات عدم الاستقرار هناك على الاقتصاد العالمي.
لا انفكاك في أوكرانيا بين الاضطراب السياسي وموقعها الاستراتيجي الاقتصادي، لاسيما أنّها قنطرة رئيسة بين روسيا والأسواق الأوروبية كما أنها أحد أكبر مصدري الحبوب.
وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ضعف اقتصاد أوكرانيا، وحاليا تعيش تحت وطأة خطة إنعاش مازالت تترنح تحت سؤال مهم: من المنقذ الحقيقي؟ هل هو روسيا أم الغرب بما فيه الاتحاد الأوروبي؟
وفيما يلي خمسة أسباب للاهتمام الكبير من قبل الاقتصاديات الكبرى بما يحدث في أوكرانيا:
1ـ أوكرانيا هي رابط مهم بين روسيا وبقية أوروبا:
لا تتحكم باقتصادها مثلما كانت من قبل، ولكنها من دون شك تتحكم في جغرافيتها. فروسيا تزود أوروبا بربع حاجاتها من الغاز، ونصفها يتم ضخه بواسطة الأنابيب التي تعبر أوكرانيا. ولو قررت موسكو قطع الإمدادات مثلما فعلت سابقا فإن أسعار الطاقة سترتفع.
2ـ العقوبات على روسيا:
في ضوء احتمال توقيع عقوبات من قبل أكبر 10 اقتصادات في العالم على روسيا، تتزايد المخاوف. وأعلن وزير الخارجية الأمريكي الأحد، أن بلاده "ترغب بكل تأكيد" في درس عقوبات على موسكو، كما أن الرئيس باراك أوباما "يدرس حاليا كل الخيارات."
وعلى هذا الاحتمال أن لا يغادر أذهان المسؤولين الروس الذي "يفحصون حاليا بكل جدية التداعيات الاقتصادية" لتحركاتهم العسكرية والسياسية، وفقا للسفير الأمريكي السابق في موسكو جون بيرلي.
وأضاف بيرلي لـCNN أن روسيا أصبحت مرتبطة بالاقتصاد العالمي أكثر مما كانت عليه قبل 10 سنوات "فنصف تجارتها الآن أصبحت مع دول الاتحاد الأوروبي، كما أنها تعيش على الواردات الأوروبية التي تملأ رفوف البضاعة التي اعتاد مواطنوها عليها."
3ـ احتمال تأثر التجارة العالمية والأوروبية:
كما أنه من الممكن لمن هم أبعد من القارة الأوروبية أن يتضرروا، في حال تأثرت حركة تجارة الحبوب وإمداداتها حيث أن أوكرانا واحدة من أكبر مصدري الذرة والقمح في العالم وبالتالي سيكون هناك احتمال كبير لارتفاع أسعارها.
4ـ الحكومة الأوكرانية غارقة في الديون:
كان يمكن للأزمة أن لا تكون بهذه الحدة لو كانت الحكومة الأوكرانية أكثر راحة فيما يتعلق باستقرارها الاقتصادي. وتعاني الحكومة من أزمة ديون تقدر بأكثر من 13 مليار دولار هذا العام، زيادة على 16 مليارا ينبغي دفعها قبل نهاية 2015. ويقول المحلل الاقتصادي لوبومير ميتوف إن أوكرانيا تحتاج للأموال الآن حتى تتجنب انهيارا كاملا. ويزداد الأمر سوءا مع إعلان روسيا تجميد مبلغ 15 مليار دولار بعد إطاحة مسؤولين حلفاء لموسكو. وتتعلق آمال أوكرانيا الآن بإنقاذ من قبل صندوق النقد الدولي الذي أعلنت مديرته كريستين لاغارد أن الصندوق يناقش مع كبار مساهميه كيفية توفير 35 مليار دولار لكييف إذا عبرت عن حاجتها لذلك. ولكن حتى تتقدم المفاوضات لا بديل عن عودة الاستقرار للبلاد.
5ـ أوكرانيا ليست الوحيدة التي تعاني من ضمن الأسواق الناشئة:
تأتي الأزمة الأوكرانية في وقت صعب تمر به عدة أسواق ناشئة، مما دعا عدة دول من ضمنها الولايات المتحدة إلى أخذ الحيطة. ويمكن للأزمة الأوكرانية أن تدفع المستثمرين إلى إعادة النظر في خططهم مع وجود مخاوف من بطء النمو في مثل هذه الأسواق.