يقول عبد الرحمن الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد و مصارع الاستعباد" المنشور في طبعته الأولى عام 1900 ما يلي:
"ان اعمال البشر في تحصيل المال ترجع الى ثلاثة أصول:
1ـ استحضار المواد الاصلية
2ـ تهيئة المواد للانتفاع بها
3- توزيعها على الناس .
وهي الأصول التي تسمى بالزراعة والصناعة والتجارة وكل وسيلة خارجة عن هذه الأصول و فروعها الأولية فهي وسائل ظالمة لا خير فيها".
وفي الفكر الاقتصادي الحديث فإن الاقتصاد يقوم على ثلاث: الزراعة والصناعة والتجارة واضيف اليهم حديثا التكنولوجيا او ما يسمى "اقتصاد المعرفة" وبالتالي فإن الاقتصاد المتقدم والمتطور يقوم على دعائمه الأربع المذكورة في اطار من التنافس والتناسب والتلاؤم والتعاون بينها. يكون الإنتاج ولا سيما انتاج الحاجات العامة والخاصة أي انتاج السلع والخدمات التي يحتاج اليها الانسان والتي تساعد على الترفي والرفاه في حياة الانسان، وذلك كله في اطار منظومة قانونية وأخلاقية تنظّم علاقات الافراد والدولة من ناحية والعلاقات بين قوى الإنتاج من ناحية أخرى، وتضمن توزيعاً عادلاً للدخل والثروة وتؤمن شبكة عادلة وحماية اجتماعية لكل انسان في الوطن.
اما الاقتصاد اللبناني فهو اقتصاد مأزوم.
منذ الأساس فهو يعاني من اختلال بنيوي لصالح قطاع الخدمات ولا سيما التجارة والخدمات المالية (المصرفية) على حساب قطاع الإنتاج الحقيقي في الزراعة والصناعة وقد تفاقم هذا الخلل بعد الحرب الاهلية واعتماد اتفاق الطائف كدستور للبلاد وبدء ورشة إعادة اعمار البلاد، لكن ذلك ترافق مع عدم الاستقرار السياسي في البلاد، وانتشار ظاهرة الفساد المالي والإداري والسياسي وازدياد النفقات الحكومية، وقصور الواردات الضريبية وزيادة في عجز الموازنة العامة ولجؤ الدولة الى الاستدانة من المصارف الخاصة. وارتفاع الفوائد على الدين العام ارتفاعا غير مبرر اقتصاديا وماليا مما دفع رأس المال اللبناني والأجنبي الى العزوف عن الاستثمار في الاقتصاد المنتج، والاندفاع الى الاستثمار في الدين العام وبفوائد مرتفعة. فتحوّل الاقتصاد اللبناني الى اقتصاد ريعي بامتياز واصبح قطاع الخدمات يتصدر النشاط الاقتصادي في لبنان حوالي 41% يليه قطاع التجارة حواي 23% فقطاع الصناعة 14% والزراعة 7%...
لقد أدى ذلك الى تراكم الثروة والدخل المتأتيان من الريع (الفوائد) في ايدي قلة من الافراد لا تشكل اكثر من 1% من المواطنين يستحوذ على حوالي 50% من ثروة البلاد ودخلها. وهذه الطبقة لا مصلحة لها في تحقيق تقدم صناعي او زراعي او استخدام التكنولوجيا وهي العناصر اللازمة لزيادة الإنتاجية والفائض الاقتصادي والسبب يعود الى ان هذه الطبقة الريعية المستحوذة على الدخل والثروة تكسب بدون مقابل مادي وبدون عمل كما قال الكواكبي "لأن المرابي (الدائن بالفائدة) يكسب وهو نائم ففيه الالفة على البطالة ومن دون تعرض لخسائر طبيعية كالتجارة والصناعة والزراعة... ومن القواعد الاقتصادية المتفق عليها ان ليس من كسب لا عار ولا احتكار فيه اربح من الربا (الفائدة) مهما كان معتدلا وان بالربا تربو الثروات فيختل التساوي او التقارب بين النالس."
ان الاقتصاد الريعي في لبنان لم يقتصر ضرره على خمول الاقتصاد وتراجع الإنتاج بل امتد الى زيادة الفوارق الاجتماعية بين المناطق وشرائح المجتمع وزيادة معدلات هجرة الكفاءات الشابة والمتعلمة والمهنية وارتفاع معدلات البطالة وتراجع مستوى المعيشة وانتشار الفقر والحرمان. ففي دراسة حديثة عن الأحوال المعيشية للأسر في لبنان عن عام 2015، تبين ان 36,03% من الاسر المقيمة في لبنان عام 2015 تعيش حالات حرمان تحت عتبة الاشباع الأساسية لدليل الأحوال المعيشية الإجمالي. وفي المقابل هناك 13,2 % من الاسر تعيش في مستوى اشباع عالي لحاجاتهم في حين ان النسبة الأكبر من الاسر 50,3 % مصنفة في مستوى اشباع متوسط، وبالطبع تختلف نسبة الاسر المتدنية الاشباع من محافظة الى أخرى، ففي البقاع نرى النسبة الأعلى وتليها النبطية والشمال والجنوب وجبل لبنان وبيروت على التوالي 53,8% 50,9% 46,6% 33,1% 31,8% و 27,4%.
"ان العدالة المطلقة تقتضي ان يؤخذ قسم من مال الأغنياء ويرد على الفقراء بحيث يحصل التعديل ولا يموت النشاط" للعمل حسب الكواكبي ونحن نتفق معه ونرى ان لا طريق الى تحقيق ذلك الا في اصلاح النظام الضريبي، وهو ما تعتمده حاليا معظم الدول المتقدمة حاليا. فمعظم الدول المتقدمة اقتصاديا ولا سيما دول منطقة اليورو (أوروبا) وذلك بإعتماد الضريبة العامة (الموحدة على الدخل) وبمعدلات تصاعدية على شطور الربح وزيادة الحصيلة الضريبية من الضرائب المباشرة (الضرائب على الدخل والضرائب على الثروة) وتخفيض الضرائب غير المباشرة (الضرائب على الاستهلاك والانفاق) وبهذه الطريقة نستطيع تحويل الموارد من الاغنياء وإعادة توزيعها بطريقة عادلة بين عناصر الإنتاج من رأس مال وعمال و ضرائب (حصة الحكومة) التي عليها استخدامها في تطوير قوى الإنتاج من خلال سياسة زراعية وصناعية وتكنولوجية للدولة وبذلك يصبح في الإمكان نزع او على الأقل تخفيف سيطرة القلة على الدخل والثروة وإقامة اقتصاد متقدم ومنتج وبمعدلات إنتاجية مرتفعة قادر على جذب الاستثمارات الوطنية والأجنبية وكذلك الشباب المتعلم والمهني المحترف والعمال والموظفين المتدربين والمهرة والرأسمالين المتنورين وخاصة الصناعيين أصحاب المصلحة في اقتصاد منتج والذين يعانون حاليا من سيطرة القلة الريعية الخاملة على الاقتصاد.
ان ما تقدم يتطلب وقفة جريئة من المواطنين أصحاب المصلحة الحقيقية ومن قوى المجتمع الحية: عمال موظفين، طلاب، أصحاب المؤسسات الاقتصادية والمهنية والحرفية الصغيرة والمتوسطة الحجم والمهن الحرة والمثقفين والكتاب والادباء والشعراء وكل من يريد وطنا مستقلا وشعبا سعيدا.
أمين صالح
مدير المؤسسة اللبنانية للخدمة الضريبية
النقيب السابق لخبراء المحاسبة المجازين في لبنان