تسود الأجواء اللبنانية موجات من الذعر وسط الحديث المستمر عن انهيار اقتصادي وشيك يهدّد بكارثة، ويحتّم وضع خطة اقتصادية مالية إنقاذية حقيقية وإصلاحات جدية، تكون بمثابة علاج سريع يقي مكونات الاقتصاد من الخطر المحدق بها.
وعزّز مشاعر الخطر هذه عند عدد من الأفرقاء وما كشفته وكالة "بلومبرغ" الأميركيّة عن صندوق النقد الدولي هو قوله إنّ الاقتصاد اللبناني يتجه في مسار لا يُمكن تحمّله، ما يتطلّب تحركاً طارئاً لاستعادة ثقة المستثمرين، والتشدّد في المالية العامّة. وأشار الصندوق إلى حجم القرارات المكلفة سياسياً، التي يجب على لبنان اتخاذها من أجل إنعاش الاقتصاد.
ومن دون شك، يمر لبنان منذ سنوات عديدة بمصاعب اقتصادية جمّة، لكن يبقى السؤال هل يقع هذا التهديد ضمن حملة على الأفرقاء السياسيين لكسر الجمود الحاصل في عملية تشكيل الحكومة الجديدة، أم أنه حقيقة هناك عاصفة تقترب رويداً رويداً من الاقتصاد اللبناني.
في الواقع، دفع الجمود السلبي في التأليف، الهيئات الاقتصادية والعمالية إلى إطلاق صرخة في وجه الطاقم السياسي، لـ"مغادرة حربهم على المغانم وتشكيل حكومة إنقاذية للوضع الذي تتهده كارثة إذا ما استمر على ما هو عليه".
وعبّرت الهيئات عن خشية كبيرة وقلق بالغ من انحدار الوضع إلى مراحل في منتهى السوء والسلبية. وحمّلت المسؤولية للسياسيين ودعتهم إلى الخروج من خلافاتهم السياسية، واتهمتهم صراحة بـ"أنهم يختلفون على المغانم، والبلد يكاد يصبح حطاماً، بل صار على حافّة هاوية وكارثة إن لم يتم تدارك الوضع قبل فوات الأوان".
تدهور 7 مؤشرات
وفي الإطار نفسه، أشار رئيس قسم الأبحاث في بنك "عوده"، مروان بركات، إلى أنه "من شأن التأخّر في تشكيل الحكومة أن ينعكس (سلباً) على الاستثمارات، وفي النتيجة على النمو الاقتصادي". وتحدث بركات عن تدهور 7 مؤشرات اقتصادية، من أصل 11، في الأشهر السبعة الأولى من العام الحالي، بينها الجمود في القطاع العقاري، حيث تراجعت تراخيص البناء بنسبة 20.1 %.
وتراجعت كذلك قيمة الشيكات المتداولة، التي تدل على مستوى الاستهلاك والاستثمار، 13 % بين كانون الثاني وتموز، وفق المصرف المركزي.
وإلى جانب ذلك كله، تزداد الخشية من تدهور الليرة اللبنانية مقابل الدولار، ما دفع المصارف إلى زيادة الفوائد على الليرة، ووصل الأمر ببعضها إلى تحديدها بنسبة 15 %.
وحذّر البنك الدولي، الذي قدّم للبنان أكثر من 4 مليارات دولار في مؤتمر "سيدر"، في وقت سابق من "دقة" وضع الاقتصاد اللبناني، خصوصاً في ظل وجود قروض "عالقة" في أدراج مجلس الوزراء أو البرلمان، بانتظار تحويلها استثمارات فعلية.
وبحسب مجلة "الإيكونوميست"، فإن القطاع العقاري هو "الأكثر إثارة للقلق"، نتيجة تراجع عدد رخص البناء في النصف الأول من عام 2018 بنسبة 9 %، وانخفاض بيع العقارات بنسبة 17%، خلال الربع الأول من العام، وذلك بالمقارنة مع معدّلات الفترات نفسها من العام الماضي، وهو ما يدفع المطوّرين إلى "الخشية من انهيار أكبر مقبل، خصوصاً بعدما أوقف المصرف المركزي القروض السكنية المدعومة فجأة".
بصيص أمل
وسط هذا الظلام ، يبقى هناك بصيص أمل لدى بعض الخبراء، إذ أكد الخبير الاقتصادي لويس حبيقة أن "لا انهيار في لبنان...فالانهيار كلمة كبيرة جداّ كوضع فنزويلا أو الأرجنتين ولبنان بعيد جدًّا عن ذلك الواقع". وقال: "الوضع متعثّر اليوم، لكنه مستقر. إلا أن هذا لا يعني أن نكتفي بالجلوس والانتظار...يجب أن نستفيد من الحرص الخارجي النادر على الوضع في لبنان... فمع استقامة الأوضاع السياسية سينتعش الوضع الإقتصادي بسرعة لأن المشكلة في الأساس ليست اقتصادية بل سياسية".
خطا دفاع أماميين
وفي الواقع، يتمتع الاقتصاد اللبناني بخطي دفاع أماميين من شأنهما منع انهياره، ولا سيما في ظل وجود آفاق أو نوافذ اقتصادية مستقبلية واعدة ستؤمّن مداخيلَ مالية إنقاذية للبنان.¶
ويتمثل الخط الأول بقدرة المصارف على تمويل دين الحكومة بفضل تلقيها سنوياً تحويلات بالعملة الصعبة بقيمة 8 مليارات من الدولارات، علماً أنه خلال الأشهر الخمسة الأولى من السنة الجارية بلغَت قيمة التحويلات الخارجية بالعملة الصعبة إلى لبنان 3,7 مليارات دولار.
¶ أما الخط الثاني فيتمثل بوجود قدرة احتياطية لدى مصرف لبنان المركزي تبلغ 12 مليار دولار من الذهب، وما قيمته 54 مليار دولار من العملة اللبنانية المطروحة في السوق اللبنانية. وما دامت عمليات التحويل من الليرة إلى الدولار لا تصل خلال دفعة واحدة أو في وقتٍ متقارب إلى نسبة 80 في المئة من مجموع الكتلة النقدية الاحتياطية بالعملة اللبنانية في البنك المركزي، فإنّ الأخير يبقى مسيطراً على سعر صرفِ الليرة ومجال العملية النقدية في البلد. والإشارة المهمّة في هذا المجال هي أنه خلال أعتى الأزمات الأمنية والسياسية التي مرّت على لبنان لم يَحدث "هلع نقدي"، بمعنى بروز طفرة تحويل من الليرة إلى الدولار، أو خروج رؤوس الأموال بالعملة الصعبة من لبنان ومصارفه إلى الخارج وصَلت إلى حدّ الخط الأحمر، أي نسبة 80 في المئة.
إصلاحات قد تمنع الانهيار
وأشار تقرير لمعهد التمويل الدولي إلى أن المشاحنات السياسية المحلية تؤخّر انطلاق عملية الإصلاحات الهيكلية الضرورية التي من شأنها رفع مستويات النمو والحد من البطالة. وأن التأخير في تشكيل الحكومة يقف عائقاً أمام استفادة لبنان من 11 مليار دولار أميركي من القروض والمنح المقدمة بشروط ميسرة، والتي تعهّد بها المجتمع الدولي في نيسان من العام الحالي.
واعتبر غربيس إيراديان، كبير الاقتصاديين لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في معهد التمويل الدولي، أنه "من المتوقع أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في لبنان بنسبة 1,3% في العام 2018، مقارنة بمعدل نمو قدّره المعهود بـ1,8% في العام 2017." وأشار إلى أن "التوصل إلى توافق حول تأليف حكومة فعالة، بالإضافة إلى تطبيق الإصلاحات الهيكلية، بما فيها الإصلاحات في المالية العامة ومعالجة المشاكل المزمنة في قطاع الكهرباء، من شأنه أن يحفز النمو ويرفع من مستوياته في الأعوام المقبلة، ويساعد أيضاً في تخفيض نسبة الدين العام إلى الناتج المحلّي إلى مستويات أكثر استدامة".
وشدّد نسيب غبريل، كبير الاقتصاديين ورئيس مديرية البحوث والتحاليل الاقتصادية في مجموعة بنك بيبلوس، أنه "بالرغم من التباطؤ الواضح في الحركة الاقتصادية، تدل المؤشرات الأساسية على استمرار الاستقرار في المالية العامة وسعر صرف الليرة اللبنانية والقطاع المصرفي، وهي عوامل توفر فرصة للأطراف المعنية لتطبيق الإصلاحات الهيكلية ومساعدة الاقتصاد على الاستفادة من الدعم المالي الدولي". كما اعتبر أن "الاقتصاد اللبناني يتطلب جهوداً من قبل الجهات السياسية، وجهوداً على مستوى السياسات العامة، من أجل إعادة انتعاش ثقة المستهلك والمستثمر. فهذه إن حصلت، بالإضافة إلى الإصلاحات الهيكلية المطلوبة، ستؤدي إلى رفع نسبة النمو الاقتصادي إلى مستويات أعلى وأكثر استدامة". وشدّد على أنه "على المسؤولين عدم التراخي وتجنّب المماطلة، بل البدء في معالجة التحديات المستقبلية للحد من الخلل في المالية العامة والحفاظ على الاستقرار المالي والنقدي".